يبدو أن القدرية تبيّن لنا أن العراق خاض الحروب كلها ولم يبق له سوى خوض حرب المياه، وهو قابع بين فكي المطرقة والسندان، بين إيران وتركيا.
لا يوجد عراقي لا يعرف قصيدة "يا دجلة الخير يا أم البساتين" للشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري التي يقول في مطلعها:
حييتُ سفحكِ عن بعدٍ فحَييني/ يا دجلة الخير، يا أمَّ البساتين ِ حييتُ سفحَك ظمآناً ألوذ به/ لوذ الحمائِم بين الماءِ والطين يا دجلة الخير ِيا نبعاً أفارقه/ على الكراهة بين الحِينِ والحينِ.
تركيا تجهل هذه الأبيات، بل حتى لو عرفت فإنها تتجاهل ارتباط الوجدان العراقي بنهره الخالد، أو الذي تخيّله خالداً، واعتبره أكسير الحياة في بلاد الرافدين. هذا الأكسير معرّض للفناء والمخيلة الشاعرية والوجدانية مُهددة بالخطر والتعطيل.
جفاف دَجلة يؤذن بكارثة إنسانيَّة تلوح فى الأُفق، يطلق عليها البعص حرب "الإبادة" بعد ما أصبحت دجلة عبارة عن حنفية بيد تركيا، تتحكم بها كما تشاء، ضاربة بالاتفاقيات الدّوليَّة عرض الحائط
هل سيمنع سد إليسو الشعراء العراقيين من التغني بهذا النهر وخصوبته، والتباهي ببساتينه؟ هل كان التزامن بين إطلاق سد إليسو وقطع مياه نهر الزاب الكبير مجرد صدفة أم ضمن استراتيجة قديمة بين تركيا وايران؟
يبدو أن القدرية تبيّن لنا أن العراق خاض الحروب كلها ولم يبق له سوى خوض حرب المياه، وهو قابع بين فكي المطرقة والسندان، بين ايران وتركيا اللتين تهددان العراق بالجفاف والظلام. ولم تكتف إيران بذلك، بل قامت أيضاً بتغيير مجرى نهر الكارون وأقامت ثلاثة سدود على نهر الكرخة، بعد أن كان العراق يشترك مع إيران في 45 رافداً مائياً، صار يشترك معها حالياً فقط في ثلاثة أو أربعة. وإيران لا تقل شراسة عن تركيا، فمنذ عام 2003 حولت مسار الأنهار والجداول المائية التي تتدفق باتجاه العراق لتبقى داخل أراضيها، ما حرم العراق من حصته المائية، وتسبب ذلك في تجفيف الكثير من هذه الأنهار، بينها نهر ألواند في خانقين وتقليل ما يصب في سدي ديربنديخان ودوكان إلى حدودها الدنيا ما أسفر عن تخريب البنية التحتية الزراعية والمائية والصناعية.
مما لا شك فيه، أن هناك عملية قرصنه على حصة العراق من المياه، ما أثار خلافات بين السنة والشيعة في النظر إلى الجارتين تركيا وإيران، وأشعل الوضع الاجتماعي والسياسي.
ويتساءل العراقيون: "هل إن الإجراءات التركية والإيرانية محض صدفة، أم أنها مؤامرة مشتركة لتجفيف نهري دجلة والفرات؟"
العراق بالنسبة للجارتين محطة لجني الأرباح والفوائد خاصة إذا ما علمنا أن تركيا وايران تضخان بموادها الإنتاجية وسلعها لأن هذا البلد لا يعرف الاستقرار، وسياسيوه لا ينظرون إلى أبعد من أرنبة أنوفهم.
لأن الحكومات التي تعاقبت منذ عام 2003 لم تعمل شيئاً في مجال بناء السدود، والاستفادة من المياه التي تصلها، ومصيرها هو الذهاب هباءً إلى مياه البحر المالحة. ما يسبب في خراب وهلاك وقتل وتهجير للعراقيين بسبب التهاون التركي والمزاجية البراغماتية لأردوغان، وأصبحت مسرحيات إيواء اللاجئين ومنحهم مساعدات وغيرها من النكات السوداء غير المضحكة، فثمنها مدفوع مسبقا. ولا ننسى مرور النفط العراقي في أراضي تركيا الذي يشغّل موانئها وناقلاتها النفطية.
هل سيشهد القرن الواحد والعشرون حروباً من أجل المياه، مثلما كان القرن العشرون مسرحاً لحروب كونية وإقليمية من أجل السيطرة على مصادر الطاقة وفي مقدمتها النفط، فهل تفتح تركيا الجارة الأبواب والشبابيك لصراعات القرن الحالي من خلال إطلاق مشروعها العملاق ما يُسمى GAP وهو مشروع جَنوب شَرقي هضبة الأناضول لتوليد الطّاقة الهيدروليكيّة الذي سيؤثر في مختلف جوانب الحياة في بلدين هما العراق وسوريا؟ بل ويتعدى تأثيراته السلبية في البنية الاجتماعية في البلدين، فضلاً عن التغييرات البيئية الهائلة من انخفاض منسوب المياه.
على أية حال، مهما بررت تركيا بناء سد إليسو، ففي اكتمال هذا المشروع، سيتحكم في تحديد كميات المياه المطلقة إلى العراق الذي يعتمد في تأمين احتياجاته على نهر دجلة، وهذا سيؤدي إلى انخفاض كبير في الإنتاج المحلي وانعكاسات ذلك على مدخولات الفلاحين والمزارعين، مما سيدفع بهم إلى ترك مهنة الزراعة والهجرة إلى المدن، كما ستزيد من اتساع وزحف مساحات التصحر في العراق. هذا ليس سيناريو خيالي، بل حقيقة واقعة سيشهدها العراق آجلاً او عاجلاً.
تركيا لا تبالي حتى لو أن سد إليسو سيحرم العراق من نصف حصته المائية من نهر دجلة، وفي الوقت الذي لم يستفد العراق خلال السنوات السابقة لا من وفرة المياه ولا في بناء سدوده.
وتدعي تركيا أنها لم تخطو خطوة واحدة دون استشارة العراق، لكنها لا تجد الأذن الصاغية، ففي هذا البلد تعمل الأحزاب السياسية المتنفذة لمصالحها، ولم تعمل الحكومات العراقية على تلافي حدوث مثل هذه الأزمة، لافتقارها إلى الخطط الاستراتيجية التي تجنّب العراقيين الحرمان من المياه الكافية.
جفاف دَجلة يؤذن بكارثة إنسانيَّة تلوح فى الأُفق، يطلق عليها البعص حرب "الإبادة" بعد ما أصبحت دجلة عبارة عن حنفية بيد تركيا، تتحكم بها كما تشاء، ضاربة بالاتفاقيات الدّوليَّة عرض الحائط. خرج العراقيون بتظاهرات خجولة ورفعوا لافتات تدعو إلى مقاطعة البضائع والمواد الغذائية والزراعية وغيرها لاتي تعّد بها السوق العراقية.
هل يبقى صوت الشاعر يصدح بقصيدته "يا دجلة الخير، يا أمَّ البساتين"، ويتغنى بها العراقيون أثناء لحظات انتشائهم وغبطتهم وزهوهم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة