حلق الوادي.. مدينة اليهود والأسماك والتاريخ في تونس
حلق الوادي هي مدينة البحر الأشهر بالعاصمة التونسية تونس، ذات التاريخ العريق والميناء البحري الأهم والأكبر بالبلاد.
هي المدينة التي تعايشت فيها جميع الديانات من مسلمين ومسيحيين ويهود، تلونت عبر أكثر من 1100 سنة تاريخا بألوان أكثر من دولة وظلت منارة تونسية لامعة.
كانت المدينة في الأصل محاطة بحصن بناه الأغالبة في القرن الثالث هجري على البحر لحماية شواطئ الدولة الأغلبية من هجوم العدو.
وفي القرن السادس ميلادي، بني الإسبان أثناء غزوهم لمدينة تونس بقيادة الملك المسيحي الإسباني كارلوس الخامس سنة 1535 ميلادي، حصن القصبة ليصبح ثكنة عسكرية إسبانية من أبرز علامات معمار حلق الوادي، التي تقع بين العاصمة وقرطاج، بضاحية تونس الشمالية. وكان للمدينة دور استراتيجي في حماية مدينة تونس من القراصنة والغزاة
وقد فتح العثمانيون المدينة البحرية بعد 40 سنة بقيادة القائد خير الدين بربروس ودخلت تونس بعدها في فترة الحكم العثماني الحسيني واستعمل الحصن كسجن للمحكومين بفترات طويلة وأصبح يسمى فيما بعد بـ"الكراكة" نسبة لكلمة "كراكجي "والتي تعني سجين.
وحافظت مدينة حلق الوادي على خصوصيتها الأبرز كمدينة للبحر والأسماك.
وتعتبر المدينة ثاني أكبر تجمع لليهود في تونس بعد جزيرة جربة، دأبوا على العيش فيها منذ القرن الخامس عشر ولا يزالون إلى اليوم رمزا فارقا وخصوصية لحلق الوادي.
ولموقعها المتقدم، استقبلت حلق الوادي عبر تاريخها هجرات عديدة بين أبرزها ارتحال الأندلسيين والإسبان إليها من إسبانيا وهجرة الإيطاليين حين كانت ضفة المتوسط الجنوبية أثرى من ضفتها الشمالية.
وقد استقدم الصقليون المهاجرون إلى حلق الوادي تقليدا فريدا يعرف بخرجة "المادونا،" يتمثل في جولة احتفالية لمجسم السيدة العذراء مريم ليغادر كنيسة سان اوجيستان ويجول شوارع المدينة، تعبيرا عن التسامح والتأخي بين معتنقي الديانات السماوية، المتعايشين في سلام بالمدينة.
يوجد في هذه المدينة الصغيرة مسجد ومعبد يهودي وكنيسة لتكون رمزا للتعايش السلمي الذي يحتضن جميع الديانات.
مدينة التسامح والانفتاح التي تجمع المقيمين من جنسيات مختلفة أوروبية وعربية وأفريقية تشتهر بأكلتها الأولى التي تصنع صيتها في تونس وخارجها: أطباق الأسماك الطازجة على تنوعها.
وعلى طول شارع يمتدّ أكثر من 3 كيلومترات، تصطف مطاعم السمك يمينا وشمالا بواجهاتها المنمقة أشكالا وألوانا بحرية متعددة، تستقطب عشرات ألاف الحرفاء سنويا، منهم من يزور حلق الوادي خصيصا من أقصى تونس ومن خارجها، لتنكّه أسماكها وأجوائها الخاصة.
ويرافق السمك طبقا تقليديا من " البريك" والذي تشتهر به هذه المدينة التي تفوح منها صيفا رائحة البحر ممزوجة برائحة الفل والياسمين الذي يباع في قلائد وباقات للمصطافين والزائرين.
واكلة البريك التي تصنع بعجين رقيق ويتم حشوه بالبطاطا والبصل والبقدونس والتين والبيض ويقلى في الزيت اشتهر ببيعها اليهود التونسيون وتختلف طريقة إعدادها عن التونسيين المسلمين.
ولا يمكن لأي زائر قادم لمدينة حلق الوادي ألا يشرب فنجان الشاي بالنعناع والصنوبر الحلبي حيث تزدهر جميع المقاهي المطلة على الشاطئ في الصيف وتكتظ بالزوار الذين يحلو لهم السمر بشرب هذا الشاي والاستماع الى الأغاني التراثية التونسية والاغاني الفرنسية القديمة التي تدفق من أسطوانات قديمة لأصحاب هذه المقاهي.
تتميز المدينة بالأصالة والشموخ والعراقة ،فكل حي وزقاق وشارع يشهدون على تاريخ هذه التحفة الفنية التي رسمها الأجداد ليحفروا في ذاكرة الأحفاد مدى تعايشهم مع الاخر.
ولقد أثرت الجائحة السنتين الأخيرتين أيما تأثير في إقبال السياح المحليين والأجانب على زيارة حلق الوادي والتمتع ببحرها وأنسامها وأسماكها، إلا أن هذا التأثير السلبي لم يمنع إقامة مهرجان السمك بالمدينة.
والمهرجان تقليد غير بعيد ينعش الحركة والحياة بحلق الوادي، تستعرض فيه المطاعم المتخصصة في إعداد الأسماك شتى أنواع غلال البحر وثماره وتتحول من محلات إعداد لأطباق البحر إلى معرض كبير لأجود الأسماك وأندرها وأطيبها.
وقد كان مئات الآلاف يزورون معرض السمك بحلق الوادي قبل انتشار عدوى كورونا، إلا أن هذه الأعداد الغفيرة تناقصت السنة الماضية ويتوقع أن تنقص أكثر هذه السنة، عند إقامة المهرجان في أغسطس القادم.
ولدت النجمة السينمائية الشهيرة كلوديا كاردينالي وترعرعت في منطقة حلق الوادي، وفازت في مسابقة "أجمل فتاة إيطالية في تونس" عام 1957. وكانت الجائزة رحلة إلي إيطاليا سرعان ما قادت إلى عقود أفلام.
وقد سبق أن قالت كاردينالي في كتاب يروي سيرتها الذاتية "غادرت تونس في الخمسينيات، وتعوّدت منذ دخولي عالم الأضواء والشهرة السفر والانتقال من هوليوود إلى لندن، ومن مراكش إلى موسكو. لكنّ سفري وترحالي لم يمنعا شوقي إلى زيارة تونس بين الحين والآخر، وملاقاة الأصدقاء".
تقول كلوديا كاردينالي في مقدمة الكتاب: "إنني فخورة بالانتماء إلى بلدي تونس، البلد الذي أعطى العديد من الأسماء اللامعة، والفاعلة في جميع الميادين. طيبة الناس وعطر سيدي بوسعيد وجمال البحر وبهاء حلق الوادي كلها أشياء قريبة إلى قلبي وعقلي".
aXA6IDMuMjEuMjQ3Ljc4IA== جزيرة ام اند امز