الحاكمية هي قضية مقيدة بالزمان والمكان، ولا يمكن أن تكون مطلقة لذات السبب، والذي يفصل بين الإطلاق والتقييد.
تشترك جميع الحركات الإسلامية المسيسة في أن (الحاكمية) هي شرط الإسلام الأول، بل ذهبت بعض الحركات إلى اعتبارها الركن السادس من أركان الإسلام. ومفهوم الحاكمية انطلق أول ما انطلق من الخوارج عندما ثاروا على الخليفة علي بن أبي طالب، وعلق -رضي الله عنه- على ما يقولون بأنها: كلمة حق أريد بها باطلاً، لأنهم قصدوا بها (الإمرة)، أي الإمارة؛ واستطاع المسلمون الأوائل التصدي لهم، وحربهم، حتى كادوا ينتهون، اللهم إلا فرق منهم قليلة بقيت في أصولها ومعتقداتها تتكئ على بعض ما قاله الخوارج.
أبو الأعلى المودودي الهندي أو الباكستاني هو أول من أيقظها ثانية من تحت الرماد، نتيجة صراع المسلمين مع الهندوس قبل انفصال باكستان عن الهند، كدولة إسلامية، ثم بقيت أفكاره في تلافيف الكتب والمصنفات الثورية لتلك الحقبة، حتى تبناها، وأثارها ثانية الإخواني (سيد قطب)، مقدماً (الحاكمية) في أطروحاته الفكرية قبل الاعتقاد وإفراد الله بالعبادة وحده دون سواه، وكان سيد قطب في أطروحاته (معتزلياً) يقول بخلق القرآن، وكتابه الشهير في (ظلال القرآن) ينضح بهذا التوجه، وإن كان يخفيه في لغة بلاغية مبهمة، تجعل منه شأناً يعوزه التبيان والوضوح.
مما تقدم يمكن القول أن الحاكمية قضية مقيدة بالزمان والمكان، ولا يمكن أن تكون مطلقة لذات السبب، والذي يفصل بين الإطلاق والتقييد هو مدى صلاحيتها للزمن الذي هو دائماً وأبداً متغير.
ومن قرأ الإسلام قبل أن يتلوث بالمماحكات السياسية والحزبية، سيجد أنه أولاً وقبل أي شيء (دين وعبادة) وليس سياسة، وهذا جلي واضح في قوله جل شأنه: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}، والدين هو في لغة العرب علاقة الإنسان بالله -جل وعلا-، والإسلام ينص بلغة صارمة أن هذه العلاقة يجب أن تكون بين الإنسان وخالقه وحده، لا شريك له. أما علاقة الإنسان بالإنسان وبمن حوله، فهذه أوكلها جل وعلا للإنسان ومقتضيات مصالحه، تدور معها حيث دارت وتوجهت. وهذا ما بينه الحديث الصحيح الذي أورده البخاري في صحيحه عن الأعرابي (النجدي) الذي سأل الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن (ماهية) الإسلام، فذكر له أنه ينحصر في أركان الإسلام الخمسة، وعندما سأله الإعرابي: هل عليّ غيرها؟.. قال له: لا إلا أن تتطوع. فقال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، ثم أدبر؛ فعلّق على مقولته تلك الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (أفلح إن صدق)، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلى (الحاكمية) التي يزاود عليها اليوم المتأسلمون؛ ومن يتمعّن في أركان الإسلام التي نص عليها الرسول في الحديث سيجد أنها جميعاً شؤون عبادية محضة، وليس فيها من المعاملات الدنيوية شيء، ما يعني أن (ثوابت) الإسلام التي لا يمكن التفريط بها، ويدخل بها المسلم في دائرة الإسلام هي (العبادات) وليست الدنيويات، ومنها المسائل السياسية، والسؤال الذي يثيره ما تقدم: لماذا لم يجعل جلت قدرته (الحاكمية) شرطاً من الشروط الدين لا يستقيم أمر المسلم إلا بها؟.. السبب أن الحاكمية ومتعلقاتها لا يمكن أن تكون ثابتة، وإنما تتغير بتغير مصالح المسلمين من مكان إلى آخر ومن زمن إلى آخر.
مما تقدم يمكن القول أن الحاكمية قضية مقيدة بالزمان والمكان، ولا يمكن أن تكون مطلقة لذات السبب، والذي يفصل بين الإطلاق والتقييد هو مدى صلاحيتها للزمن الذي هو دائماً وأبداً متغير.
لذلك فإن الفقهاء الأوائل ألحقوا شؤون الإمارة والسياسة بالمعاملات الدنيوية الفقهية ولم يجعلوها شرطاً يتعلق بها إسلام المسلم من كفره.
إلى اللقاء،،،
نقلاً عن "الجزيرة السعودية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة