غراهام تيرنر.. حلم جامح انطلق من الطب البيطري إلى ريادة صناعة السفر

غراهام "سكرو" تيرنر، هو أحد الأفراد القلائل الذين أحدثوا ثورة شاملة في قطاع بأكمله، يعرفه الجميع في أستراليا وقطاع الطيران كمؤسس "فلايت سنتر"، لكن قصته تتجاوز ذلك بكثير.
لقد غيّر الأسترالي غراهام "سكرو" تيرنر مساره من رعاية الحيوانات المريضة إلى مساعدة ملايين الناس على استكشاف العالم.
وما يميز قصته هو أسلوبه في إدارة الأمور وفقًا لشروطه الخاصة، متجاوزًا المألوف.
وعندما تدخل أي مركز تابع لشركة "فلايت سنتر" اليوم، ستشاهد ثمرة حلم جامحٍ أصبح عملاقًا، ولم يكتف تيرنر بتأسيس الشركة، بل طوّر طريقة جديدة للتفكير في السفر.
وتعمل شركته اليوم في 24 دولة، ويُطلق الموظفون هناك على أنفسهم اسم "فلايتيز"، هذا المصطلح المرح يُلخص ثقافة العمل التي أسسها تيرنر.
الأيام الأولى: من الحيوانات إلى المغامرات
نشأ غراهام تيرنر في أستراليا كأي طفل عادي، باستثناء أن زملائه في المدرسة كانوا يقولون له إن شعره المجعد يشبه المسمار.
هناك، انتهى به المطاف بلقب "سكرو"، الذي لم يتلاش قط، وأكمل تيرنر دراسته الثانوية لدراسة الطب البيطري في جامعة كوينزلاند. في ذلك الوقت، كان العمل كطبيب بيطري مسارًا مهنيًا مرموقًا، وكان تيرنر بارعًا فيه أيضًا.
وعمل تيرنر كطبيب بيطري في غرب فيكتوريا بعد تخرجه لفترة، وكان يعالج حيوانات المزارع والحيوانات الأليفة خلال النهار، وهو نوع من العمل قد يعتبره الجميع محترمًا ومستقرًا.
ولكن تيرنر لم يكن كغيره، أزعجه رتابة العمل البيطري، وكان يراقب باستمرار ما يغفله الآخرون، وخاصةً تزايد اهتمام الشباب الأسترالي بالسفر إلى الخارج.
وكانت أوائل السبعينيات فترة رائعة للشباب، كانوا أكثر ثراءً من أي جيل سبقهم، لكنهم كانوا يتوقون أيضًا لتجارب لم تتح لآبائهم.
ولاحظ تيرنر ذلك وأدرك أن لا أحد يُلبي احتياجات هذا السوق بجدية، وكانت وكالات السفر آنذاك تبيع خدماتها لكبار السن والأثرياء الراغبين في فنادق راقية وجولات سياحية بصحبة مرشدين.
وأدرك تيرنر وجود شريحة واسعة في السوق بين الشباب الراغبين بالسفر لكنهم غير قادرين على تحمل تكاليف البدائل التقليدية.
بناء الخبرة: مغامرة لندن مع توب ديك ترافل
واتخذ تيرنر قرارًا اعتبره الكثيرون جنونًا، إذ ترك عمله في الطب البيطري وانتقل إلى لندن.
وكان ذلك في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وكانت لندن مركزًا لظاهرة الثقافة الشبابية.
والتقى تيرنر بصديقه جيف "سباي" لوماس، ووضعا خطة لم يطبقها أحد غيرهما من قبل، وبدأوا بشراء حافلات ذات طابقين قديمة وتحويلها إلى نُزُل متنقلة.
وكانت فكرة توب ديك ترافل عبقرية في بساطتها، وكان بإمكان المسافرين الشباب دفع رسوم رمزية للانضمام إلى مجموعة تسافر عبر أوروبا ككل.
وكانوا ينامون في الحافلات، وهي أرخص من دفع ثمن الفنادق، ويزورون عدة دول مختلفة في رحلة واحدة، وقاد تيرنر ولوماس جميع الحافلات بأنفسهما في السنوات الأولى، مما أتاح لهما التعرف على عملائهما وما يبحثون عنه تحديدا.
ووفر تشغيل شركة توب ديك ترافل لتيرنر كل ما يحتاجه من معرفة حول صناعة السفر، والأهم من ذلك، أنه عرّفه على الناس.
واكتشف أن المسافرين الشباب يهتمون بقضاء وقت ممتع والتعرف على الآخرين أكثر من اهتمامهم بالإقامة الفاخرة.
وكانوا يبحثون عن مرشدين ودودين وذوي خبرة، لا عن مديري جولات رسميين يرتدون بدلات رسمية.
كما تعلم تيرنر أن منح الأفراد بعض الاستقلالية في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم طوال الرحلة جعلهم أكثر سعادة بكثير من فرض جدول زمني صارم.
وشجع نجاح توب ديك ترافل تيرنر على تصديق حدسه تجاه صناعة السفر، والأهم من ذلك، أنه علمه كيفية العمل في دول متعددة، وتجاوز الضوابط الحكومية، والحفاظ على عمل الموظفين بعيدًا عن المقر الرئيسي.
هذه مهارات وجدها مفيدة للغاية عند توسيع عمل شركته "فلايت سنتر" في الخارج مستقبلًا.
البدايات: قصة نجاح في سيدني
وكان تيرنر مستعدًا للعودة بأفكاره إلى أستراليا عام 1981، حيث تعاون مع جيف هاريس لافتتاح "فلايت سنتر"، أول مكاتب شركته للرحلات في سيدني.
وكان ذلك الوقت مناسبًا، إذ كانت أستراليا تشهد طفرة في سفر الشباب، مع ازدياد عدد الشباب الأستراليين المتحمسين لاستكشاف العالم بشكل غير مسبوق، كان تيرنر على دراية تامة باحتياجات هؤلاء الأشخاص، إذ كان يُلبي احتياجاتهم لسنوات في أوروبا.
وكان مكتب "فلايت سنتر" الأصلي مختلفًا عن أي وكالة سفر أخرى في أستراليا في ذلك الوقت.
فبدلًا من توظيف مستشارين ذوي مظهر جاد يرتدون بدلات رسمية خلف مكاتب رسمية، وظّف تيرنر شبابًا شغوفين سافروا كثيرًا.
وكان المكتب ودودًا ومريحًا، مع خرائط وملصقات سفر تُزيّن الجدران، ولم يمانع العملاء في طرح الأسئلة وقضاء بعض الوقت في التخطيط لعطلاتهم، بل شعروا بالحاجة إلى اتخاذ قرار سريع.
وكان أبرز ابتكارات تيرنر هو طريقة تنظيمه للعمل من الداخل، بدلاً من إدارة كل شيء من المكتب الرئيسي، كما تفعل معظم الشركات، منح مدير المتجر سيطرة مطلقة عليه.
وكان هؤلاء المدراء يُبلغون عن أرباحهم وخسائرهم، مما يعني أن لديهم حوافز حقيقية لرعاية العملاء وخفض التكاليف، وركز هذا على الموظفين بطريقة لم تكن الرواتب العادية قادرة على تحقيقها.
واستند نجاح "فلايت سنتر" المبكر إلى رؤية تيرنر الثاقبة لما يحتاجه المسافرون الشباب حقًا، فلم يكونوا بحاجة إلى رعاية أو باقات باهظة الثمن تفوق إمكانياتهم، بل كانوا بحاجة إلى نصائح مباشرة من شخص يعرف ميزانياتهم وتطلعاتهم.
وأسس تيرنر ثقافة تُمكّن موظفيه من تقديم هذا النوع من الخدمة تحديدًا.
أسلوب القيادة الذي غيّر كل شيء
وكان أسلوب تيرنر في إدارة "فلايت سنتر" مخالفا تمامًا لما كانت تتبعه معظم الشركات الأسترالية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي.
فبينما كان خبراء الأعمال الآخرون منشغلين بإملاء كل شيء من قاعات اجتماعاتهم، كان تيرنر يعمل في الاتجاه المعاكس.
وكان تيرنر يعتقد أن العاملين في قسم الإنتاج يعرفون عملاءهم أفضل معرفة، وبالتالي يجب تمكينهم من اتخاذ القرارات الحاسمة بانفسهم.
وطُبقت هذه الفلسفة على طريقة تعامل تيرنر مع جميع الموظفين، بغض النظر عن وظائفهم داخل الشركة.
وأكد على أن جميع المساهمات متساوية، سواء كانوا موظفين جددًا في قسم الإنتاج أو مدراء مخضرمين.
واشتهرت شركة Flight Center ببيئة عمل مفعمة بالحيوية والاسترخاء، حيث استمتع الموظفون بالحضور إلى العمل، وتولى تيرنر مهامًا منتظمة في الشركة، وشجع الموظفين على مشاركة تجاربهم الشخصية مع العملاء.