"كارلوس غصن" شخصية ذات الأصول اللبنانية العربية في مركز قيادي كبير داخل الصناعة اليابانية ومن ثم النظام الاقتصادي الياباني.
في ١٩ نوفمبر ٢٠٠٣ نشرت مقالا في صحيفة "نهضة مصر" بعنوان "عملية اختراق اليابان" قامت على نظرة فاحصة لوجود شخصية "كارلوس غصن" ذات الأصول اللبنانية العربية في مركز قيادي كبير داخل الصناعة اليابانية، ومن ثم النظام الاقتصادي الياباني، بدأ ذلك اختراقا وقتها ليس فقط من شخص برازيلي الجنسية ولبناني الأصل وإنما لكونه ممثلا لظاهرة "العولمة"، الذي بات عليه اختراق مجتمع له ثقافة مغايرة تماما لما نشأ عليه.
فالرجل تعلم في فرنسا حيث حصل على شهادته الجامعية في الهندسة من مدرسة "البوليتكنيك"، وفى عام 1978 التحق بشركة ميشلين لإطارات السيارات المعروفة، حيث عمل مديرا لعملياتها فى البرازيل، ثم لعملياتها في شمال أمريكا؛ وفي عام 1996 عاد إلى فرنسا لكي يكون نائبا لرئيس شركة رينو للسيارات؛ ولكن تاريخه على مستوى العالم جاء عندما تولى رئاسة شركة نيسان العالمية اليابانية للسيارات عام 1999.
هذه الخلطة من البرازيلى المتعلم فى فرنسا والمتدرب والعامل في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية كان عليه مواجهة نوعين من التحديات عندما وجد نفسه في اليابان: أولها أن شركة نيسان التي بات عليه أن يتولى قيادتها كانت في طريقها إلى اللانهاية، وهبطت أرباحها، وأسهمها في البورصة، وانخفضت روح العاملين فيها إلى الحضيض، وباتت باختصار عاجزة تماما عن المنافسة مع العمالقة في عالم صناعة السيارات.
وثانيها أن هناك مجموعة من "القيم اليابانية" الخالصة في الإدارة هي الحاكمة في الشركات اليابانية كلها، وكانت حتى نهاية الثمانينيات يعزى لها السبب في "المعجزة" الاقتصادية، ولكنها مع التسعينيات صارت هي العقبة وجزءا من المشكلة وليس بعضا من الحل، كان ذلك العقد هو الذي شهد انفجار "الفقاعة" اليابانية، ونموذجها في الصناعة والتنمية، وكان على اليابان أن تخرج من صدفتها التاريخية التي ظنتها متفوقة على كل منافسيها من المتقدمين.
في ١٩ نوفمبر ٢٠١٩ اعتقلت السلطات اليابانية كارلوس غصن بتهمة الفساد المالي، وخرج من السجن بكفالة ١٨ مليون دولار أمريكي؛ وفي بداية العام الحالي ٢٠٢٠ تمكن غصن من الهرب من منزل احتجازه الجبري.
كانت القيم اليابانية في الإدارة لها من القدسية ما لا يقل عن "القيم العربية" المقدسة، وكانت 4 في الإدارة: أولها أن نظام المرتبات والترقية يقوم على الأقدمية؛ وثانيها أن العمل يكون مدى الحياة؛ وثالثها الاعتماد الكبير على مستويات الإدارة الوسطى؛ ورابعها أن العامل الياباني والإداري الياباني لا يوجد مثيل له في العالم.
ولما كانت هذه القيم هي في النهاية التي قادت شركة نيسان إلى ما وصلت إليه فى نهاية التسعينيات، فقد قامت الشركة في حركة يائسة بدعوة اللبناني البرازيلي الفرنسي الأمريكي كارلوس غصن لقيادة الشركة واختراقها، لعله ينقذها من الإفلاس، وبالطبع كان كارلوس غصن يدرك كما يدرك كل الرؤساء من أمثاله أن هناك مشكلات عملية في الشركات المنهارة مثل ارتفاع التكلفة، والتوسع الزائد، وضعف التطوير التكنولوجي. ولكن الرجل بقدر ما عرف كل ذلك كان عليه أن يضع يده على أصل الموضوع كله وهو القيم التي قادت إلى كل هذه المشكلات.
وكان ما فعله غصن أن غير وعدل من "القيم اليابانية"، وحينما سمح لصغار السن الموهوبين للغاية في الوصول إلى المناصب العليا فقد أضاف لقاعدة الأقدمية تنافسية تصعد المواهب إلى الصفوف الأولى، وحينما جعل الفصل ممكنا في حالات الخسارة الكبرى فقد خلق عنصرا من الرغبة في الإجادة والابتكار المستمرين، وحينما جعل وظيفته أن يرسم الاستراتيجية الكبرى ويدفع الجميع لتطبيقها فقد خلق حالة من التوجه الاستراتيجي للمؤسسة كلها، وعندما جعل 10% من العاملين من الأجانب الفرنسيين والأمريكيين فقد أضاف تنويعات على القدرات اليابانية تجعلها أكثر تنافسية وفعالية.
وكانت عملية الاختراق اللبنانية البرازيلية الفرنسية الأمريكية فاعلة للغاية، فقد انقلب الحال رأسا على عقب في مؤسسة نيسان اليابانية، وانتقلت من الخسارة إلى الربح، وارتفعت قيمة أسهمها في البورصة، وعادت مرة أخرى إلى الصفوف الأولى من الشركات المنتجة للسيارات سواء منها اليابانية مثل تويوتا وهوندا والأمريكية مثل جنرال موتورز وفورد والأوروبية مثل رينو وفولكس واجن. بات التحالف العالمي الذي يقوده غصن في ٢٠١٧ يشمل إلى جانب رينو ونيسان وميتسوبيشي أكبر شركة روسية مصنعة للسيارات أفتو فاز (لادا) التي تواجه صعوبات كبرى، وقد أنتج هذا التحالف عام 2016 قرابة عشرة ملايين سيارة (9.86 مليون) ليقترب بذلك من الأمريكية جنرال موتورز (عشرة ملايين وحدة) التي تحل خلف فولكس فاجن الألمانية (10.3 مليون سيارة)، وتويوتا اليابانية (10.18) مليون سيارة.
في نهاية المقال الذي أشرت إليه في مقدمة هذا المقال كتبت: "والمدهش في الموضوع كله أن أحدا في اليابان لم يصرخ حول تهديد "القيم اليابانية"، فقد كان الأمر هو عملية تفاعل عالمية لا بد منها، وهي لم تكن تخص شركة نيسان وحدها، وإنما كانت تخص كل الشركات اليابانية كلها. ولم يكن ما تغير له علاقة بالمشاكل الفنية الخاصة بنجاح أو فشل شركات تجارية وصناعية، وإنما كان ما تغير قيما ثقافية في الإدارة والإنتاج".
وتعالوا ننتظر حال اليابان خلال الأعوام القادمة! كان في المقال مبالغة في التفاؤل في وصف نتيجة تقابل غصن مع الثقافة اليابانية والمجتمع الياباني، والحقيقة هي أن الكاتب آن ذاك كان مبالغا في تأثير "العولمة" على ثقافات العالم، بما فيها، وربما في مقدمتها "الثقافة اليابانية" التي يبدو أنها رغم كل النجاح الذي حققه البرازيلي الفرنسي اللبناني فإن ذلك لم يغفر له ما حققه من نجاح في حياته الشخصية وما كونه من ثروات وما حصل عليه من جوائز وتقلد من أوشحة شرف. في ظل "العولمة" فإن النجاحات تعرف بأشخاصها، فقصة "ستيف جوبز" كانت صنو شركة "آبل"، وبيل جيتس كان واجهة "مايكروسوفت"، وبيزوس و"أمازون"؛ ومن اليابان فإن لا أحد يعرف من هو واجهة شركات "تويوتا" أو "سوني" أو "بانا سونيك". وبعد الاختراق من غصن فإن واحدا من قدس الأقداس اليابانية بات منتهكا، فالرجل والشخصية والتاريخ الشخصي وليس الشخص الجمعي للشركة بات هو العلامة على جودة المنتج الصناعي الذي لم يتفوق فقط فيما أنتجه من سيارات تقليدية وإنما بات على أبواب أكبر اختراق في تاريخ السيارات الكهربائية في العالم.
في ١٩ نوفمبر ٢٠١٩ اعتقلت السلطات اليابانية كارلوس غصن بتهمة الفساد المالي، وخرج من السجن بكفالة ١٨ مليون دولار أمريكي؛ وفي بداية العام الحالي ٢٠٢٠ تمكن غصن من الهرب من منزل احتجازه الجبري كما تردد في صندوق مخصص لنقل آلة موسيقية، حيث وصل إلى لبنان عبر تركيا، رد الفعل الياباني كان مذكرة اعتقال إلى الإنتربول تطالب بتسليمه، ما جرى من مساجلات بين غصن وخصومه في اليابان تعكس فجوة ثقافية عميقة بين فرد عبقري ترى الجماعة اليابانية أن واجبه أن يظل مدفونا داخلها؛ وبين فرد بات جزءا من ثقافة عالمية تعطي للعبقري حظوظه في الشهرة والغنى والمجد، تماما مثل أقرانه في الحضارة العالمية المعاصرة، وفي عقد تراجعت فيه "العولمة" في العالم لصالح التوجهات اليمينية والعنصرية، وانسحبت فيه اليابان لكي تعيش داخل قوقعتها التاريخية، فإن الدهشة ليست ضرورية في أن الثقافة اليابانية ومن بعدها القانون الياباني لم يعد لهما الطاقة لكي يستوعبا أن واحدا من أكثر الرجال نجاحا في اليابان ليس يابانيا!.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة