التصعيد الكلامي والتهديدات المتبادلة بين إيران وأمريكا ليست مرحلة طارئة أو عابرة في المسار الزمني للعلاقات بين البلدين
رغم مؤشرات التهدئة واحتواء التصعيد الحاصل في أجواء العلاقات الإيرانية الأمريكية بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني إثر ضربة صاروخية أمريكية استهدفت الجنرال الإيراني ومرافقيه من قيادات الحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي العراقي، ثم الرد الإيراني "المحسوب" بدقة سياسية واضحة، فإن هذا الحدث يمثل منعطفاً نوعياً في مسار هذه العلاقات المأزومة منذ عام 1979.
لا شك أن مقتل سليماني قد زج بالتوتر الأمريكي - الإيراني إلى منعطف أكثر خطورة، مع الاستهداف الأمريكي المباشر لشخصية قيادية في النظام الإيراني، ردا على الاستهداف المتكرر من قوات "الحشد الشعبي" العراقية المدعومة إيرانياً لقواعد ومصالح أمريكية في العراق، وعلى محاولة اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد، ثم الرد الإيراني المباشر أيضاً باستهداف قواعد عسكرية أمريكية في العراق بأكثر من 15 صاروخاً، وسط حالة من تصعيد التهديدات المتبادلة بالاستهداف المباشر لقواعد ومصالح كل طرف في المنطقة، بشكل بدا معه الأمر وكأن المنطقة على أبواب حرب جديدة، أو صراع مفتوح لا يعرف أحد أين يمكن أن ينتهي إذا بدأ.
التصعيد الكلامي والتهديدات المتبادلة ليست مرحلة طارئة أو عابرة في المسار الزمني للعلاقات بين البلدين، ولكن التصعيد هذه المرة قد أثار المخاوف لأنه تجاوز خطوطا حمراء كانت مرسومة بين الجانبين، ووصل إلى مرحلة الاستهداف المباشر من قبل كل طرف لمصالح وقوات الطرف الآخر بعد أن كانت المواجهات تتم بالوكالة أو من خلال أداة العقوبات الاقتصادية، ومن ثم فإن المواجهة المباشرة المحسوبة بين الجانبين تمثل تطوراً مهماً ولكنها لا تعني بالمقابل أن الحرب باتت وشيكة، فالجانب الإيراني يدرك جيداً حجم القوة الأمريكية، ويعرف ماذا يعني الدخول في صراع عسكري مفتوح مع واشنطن، لكنه في الوقت ذاته سعى للرد على مقتل أبرز جنرالاته لأنه يدرك، والولايات المتحدة تدرك أيضاً، أن عدم الرد قد تكون له تكلفته السياسية على النظام وصورته التي يصدرها للرأي العام الداخلي والخارجي بشأن قدرته على الردع والرد على أي اعتداء، ولذا بادرت واشنطن ذاتها بفتح الباب أمام قبولها للرد على مقتل سليماني ولكن "بشكل متناسب"، كما قال الرئيس ترامب ذاته، وبالفعل جاء الرد الإيراني باستهداف مناطق لا توجد بها قوات أمريكية في قواعد عسكرية أمريكية في العراق كنوع من حفظ ماء الوجه.
الشاهد الآن أن احتمالات الحرب قد تراجعت، لكن يبقى خطر ممارسات المليشيات الإيرانية وإساءة تقدير كل طرف لرد فعل الطرف الآخر، بما قد يدفع المنطقة إلى موجة جديدة من التوترات هي في غنى عنها
الخلاصة هنا أن الولايات المتحدة نفسها هي من دعت الجانب الإيراني للرد، وفق قواعد لعبة محسوبة بعناية، وجاء التزام الإيرانيين بالرد وفق هذه القواعد بمنزلة إعلان بقبول السقف الجديد وقواعده؛ فالولايات المتحدة نفسها لا تريد الدخول في حرب جديدة، لا سيما أن الإدارة الحالية تستعد لجولة جديدة من الانتخابات أواخر العام الحالي، ولكن لم يكن لها أن تصمت على كل الاستفزازات والاعتداءات التي تعرضت لها قواتها وقواعدها ومصالحها في العراق من قِبل الإيرانيين والمليشيات التابعة لهم.
الخلاصة أيضاً أن الولايات المتحدة حققت هدفها الخاص بردع إيران عسكرياً، ورسالتها وصلت إلى طهران بوضوح بالغ؛ فاستهداف الجنرال قاسم سليماني بما له من دور رئيسي في تنفيذ خطط التمدد الطائفي إقليمياً من خلال "فيلق القدس" الذي كان يقوده، والذي يدير العمليات الخارجية في الحرس الثوري، ويعد رأس الحربة في التدخلات الإيرانية في دول المنطقة، يمثل بلا شك خسارة كبيرة للنظام الإيراني وأجندته التوسعية في المنطقة، ويطرح تساؤلات جدية بشأن قدرة طهران على الحفاظ على علاقاتها مع المليشيات التي تستخدمها كأذرع لها في المنطقة، لا سيما في العراق ولبنان وسوريا واليمن، حيث كان سليماني هو مهندس هذه العلاقات، وهمزة الوصل فيها، بالرغم من تأكيد القائد الجديد لفيلق القدس أنه سيواصل النهج ذاته.
استهداف سليماني والرد الإيراني باستهداف قواعد أمريكية يمكن أن يشكل مرحلة تحول في المنطقة، لا سيما مع الجدل الذي أثير حول الوجود الأمريكي في العراق، والتصريحات المتضاربة بشأن إمكانية قيام واشنطن بسحب قواتها العسكرية من هناك، بعد تحركات من قبل القوى السياسية العراقية، تحت ضغط من المليشيات الشيعية الموالية لطهران، لا سيما مليشيات الحشد الشعبي التي قُتل نائب رئيسها أبومهدي المهندس في العملية الأمريكية نفسها التي استهدفت سليماني، تطالب بإلغاء اتفاقيات التعاون الأمنية والعسكرية بين العراق وواشنطن، وتبني قرارات تطالب بطرد القوات الأمريكية من العراق، وهذا ما حدث بالفعل، حيث صوّت البرلمان العراقي بالأغلبية، على قرار يطالب الحكومة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي على أراضي البلاد، وهذا الأمر هو ما تسعى إليه طهران منذ زمن. وهذا الأمر بالتحديد إذا حدث، فإنه سيمثل مكسباً استراتيجياً غير مسبوق لإيران، التي ستنفرد حينئذ بفرض هيمنتها الكاملة على هذا البلد العربي، وسلخه تماماً من محيطه العربي، بما سيمثله ذلك من تهديد خطير لمنظومة الأمن القومي العربي، وتقوية شوكة إيران في المنطقة.
الشاهد الآن أن احتمالات الحرب قد تراجعت، لكن يبقى خطر ممارسات المليشيات الإيرانية وإساءة تقدير كل طرف لرد فعل الطرف الآخر، بما قد يدفع المنطقة إلى موجة جديدة من التوترات هي في غنى عنها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة