مهمة سرية تنهي حيرة العلماء.. آخر ذوبان لجليد غرينلاند قبل 400 ألف سنة
التنبؤ باستجابة الغطاء الجليدي لظاهرة الاحتباس الحراري في المستقبل
بينما كان يسود اعتقاد بين العلماء بأن الغطاء الجليدي على سطح الأرض ظل مستقراً لملايين السنوات، أظهرت دراسة حديثة أن صفيحة غرينلاند الجليدية كانت منطقة غابات قبل حوالي 400 ألف سنة.
تعزز الدراسة، التي أجراها فريق مشترك من الباحثين في الولايات المتحدة الأمريكية، على نواة جليدية، ظلت مفقودة منذ منتصف القرن الماضي، نتائج دراسة سابقة على نواة صخرية فريدة، تم استخراجها من حفرة عميقة تحت مركز صفيحة غرينلاند، ترجح أن كل أو معظم الجليد، الذي يغطي اليابسة، قد تعرض للذوبان بشكل كامل لمرة واحدة على الأقل، خلال الـ1.1 مليون سنة الماضية.
وساعدت الدراستان، الأولى في عام 2016 والثانية تم إجراؤها في 2021، ونشرت نتائجها في مجلة (Science) الأمريكية في 20 يوليو/تموز 2023، في تغيير الرأي السائد بين غالبية علماء الجيولوجيا وخبراء المناخ، بأن الغطاء الجليدي بالمناطق القطبية كان مستقراً لملايين السنوات، حتى خلال فترات الدفء التي شهدها كوكب الأرض في الظروف الطبيعية.
وتوصل فريق الباحثين، من جامعتي فيرمونت وكولومبيا ومراكز بحثية أخرى، إلى أن أجزاء كبيرة من جزيرة غرينلاند، في القطب الشمالي، فقدت غطاءها الجليدي منذ حوالي 416 ألف سنة، بالإضافة إلى أو ناقص 38 ألف سنة، وهي فترة حديثة جداً في العصر الجيولوجي، مما أدى إلى ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 5 أقدام على الأقل، وربما يصل إلى 20 قدماً.
ورغم أن حرارة الأرض، في تلك الفترة، كانت أكثر دفئاً بشكل طفيف عما هي عليه الآن، كما أن مستويات انبعاثات الاحتباس الحراري كانت أقل بكثير، يحذر الباحثون من أن الاحترار العالمي الناجم عن الأنشطة البشرية يمكن أن يقضي على الغطاء الجليدي للقطب الشمالي خلال سنوات قليلة مقبلة، مما يتسبب في ارتفاع مستوى سطح البحر بأكثر من 23 قدماً.
استخدم الباحثون رواسب من قاع نواة جليدية مفقودة منذ فترة طويلة، تم جمعها من قاعدة عسكرية أمريكية سرية في ستينيات القرن الماضي، تم تحليل مكوناتها باستخدام تقنيات النظائر المتقدمة، بهدف الحصول على دليل مباشر على توقيت ذوبان الصفيحة الجليدية في غرينلاند، والفترة التي ظلت بدون غطاء جليدي.
- ثوران بركاني ضخم تحت الماء.. ما وراء الاحترار العالمي القياسي في 2023
- دخان الحرائق يخنق اقتصاد العالم.. ويمحو 16 تريليون دولار في عقدين
ووفقاً للبيان الصحفي المرافق للدراسة يوجد مكان التقاط النواة الجليدية ضمن منطقة "معسكر القرن Camp Century"، شمال غرب غرينلاند، على بعد حوالي 180 ميلاً من ساحل الصفيحة الجليدية، ونحو 800 ميل من القطب الشمالي، وكان هذا الموقع قاعدة سرية للجيش الأمريكي أثناء فترة الحرب الباردة، بهدف نشر مئات الصواريخ النووية سراً بالقرب من الاتحاد السوفياتي السابق.
وذكرت الولايات المتحدة، في ذلك الوقت، أن الموقع عبارة عن محطة علمية، وتم اصطحاب فريق من الباحثين ضمن طاقم القاعدة العسكرية السرية، بغرض إجراء بعض الأبحاث العلمية، وبالفعل تمكن الباحثون من حفر نواة جليدية بعمق 4560 قدماً، وسحبوا أنبوباً بطول 12 قدماً من التربة والصخور من أعماق صفيحة غرينلاند الجليدية.
وأشار البيان، الصادر عن كلية كولومبيا للمناخ والأرض والمجتمع، إلى أن العلماء لم يهتموا بدراسة الرواسب في ذلك الوقت، حيث تم حفظ النواة الجليدية في ثلاجة عسكرية، قبل أن يتم نقلها إلى جامعة بوفالو في السبعينيات، ومنها إلى الدنمارك في التسعينيات، حيث ظلت طي النسيان في الدولة الأوروبية، إلى أن بدأ العلماء فحصها في عام 2017.
وأكد المؤلف المشارك للدراسة سيدني هيمنغ، عالم الكيمياء الجيولوجية في مرصد لامونت دوهرتي للأرض، التابع لجامعة كولومبيا، أن دراسة العينة المستخرجة من عمق صفيحة غرينلاند أظهرت أنها لا تحتوي فقط على رواسب جليدية، وإنما تتضمن أوراقا وطحالب وكائنات أخرى تعيش على سطح الأرض، مما يرجح أن الموقع كان منطقة غابات قبل آلاف السنين.
وسعى الفريق البحثي إلى الحصول على إجابة السؤال: منذ متى كانت تلك النباتات تنمو في القطب الشمالي؟ خاصةً أن مساحة الصفيحة الجليدية في غرينلاند تبلغ حوالي ثلاثة أضعاف مساحة ولاية تكساس، ويصل سمك طبقة الجليد إلى أكثر من ميلين، الأمر الذي كان يعزز الاعتقاد السائد بين العلماء بأن الغطاء الجليدي ظل مستقراً لملايين السنين.
وأوضح هيمنغ، في تصريحات لـ"العين الإخبارية"، أن الدراسة تقدم دليلاً جديداً على أن الرواسب الموجودة أسفل الغطاء الجليدي قد ترسبت عن طريق المياه المتدفقة في بيئة خالية من الجليد، وخلال فترة "الاحترار المعتدل"، التي شهدتها الأرض قبل ما يتراوح بين 424 ألف و374 ألف سنة، حيث كانت حرارة الكوكب أكثر دفئاً قليلاً عن اليوم.
وأشارت نتائج الدارسة إلى أن جليد غرينلاند قد يكون أكثر حساسية للتغيرات المناخية الناجمة عن الأنشطة البشرية مما كان يُعتقد في السابق، الأمر الذي يثير قلقاً عالمياً من أنه ربما يكون عرضة للذوبان بوتيرة متسارعة، وبمستويات لا رجعة فيها، خلال الفترة المقبلة.
وأكد العالم بول بيرمان، أستاذ علم الجيومورفولوجي لدراسة تشكل طبقات الأرض، في جامعة فيرمونت، الذي شارك في قيادة فريق الباحثين، إلى جانب درو كريست، عالم الجيولوجيا ما بعد الدكتوراه في مختبر بيرمان، أن الدراسة تقدم "أول دليل لا يقبل الشك، على اختفاء جزء كبير من الغطاء الجليدي في غرينلاند، عندما أصبحت الأرض أكثر دفئاً".
واعتبر بيرمان أن دراسة الطبقة الجليدية لصفيحة غرينلاند أحد الأمور بالغة الأهمية للتنبؤ بكيفية استجابة الغطاء الجليدي العملاق لظاهرة الاحتباس الحراري في المستقبل، وأضاف أن "ماضي غرينلاند، المحفوظ في نواة جليدية بطول 12 قدماً من التربة المتجمدة، يوحي بمستقبل خال من الجليد لكوكب الأرض، ما لم نتمكن من خفض انبعاثات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي بشكل كبير".
وتشير تقديرات علمية، استند إليها فريق الدراسة، إلى أن الفترة التي شهدت ذوبان الصفيحة الجليدية في غرينلاند، قبل نحو 400 ألف سنة، كانت أكثر دفئاً بشكل طفيف عما هي عليه الأرض الآن، إلا أن مستويات ثاني أكسيد الكربون كانت أقل بكثير، بواقع 280 جزءاً في المليون أو أقل في ذلك الوقت، مقابل 420 جزءاً في المليون اليوم أو أكثر، مما يؤكد الطبيعة الهشة للصفائح الجليدية في القطب الشمالي بأكمله.
وأظهرت نماذج الدراسة أن ارتفاع مستوى سطح البحر في حال ذوبان صفيحة غرينلاند مرة أخرى قد يكون بمقدار عشرات الأمتار، مما يهدد باختفاء عشرات الدول الجزرية ومئات الجزر المأهولة بالسكان، وغرق عشرات المدن الساحلية بأنحاء العالم.