لم أكتب منذ فترة مقالات اقتصادية لانشغالي في العاصمة الأمريكية واشنطن منذ شهور بمتابعة الصراعات السياسية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، التي لها نكهة خاصة بمناسبة عودة الرئيس السابق دونالد ترامب لفصولها.
لكن وخلال مشاهدتي برامج "التوك شو" في القنوات الأمريكية، لاحظت إجماعا على الاعتراف بصعود نجم دول الخليج اقتصاديا وسياسيا في الشرق الأوسط والعالم، وانزعاج ساسة أمريكيين من ذلك.
وبداية أقول إن هناك أسبابا كثيرة تقف وراء هذا الصعود الاقتصادي في دول الخليج بهذا النمو الكبير الذي يتحدث عنه العالم الآن.
ولأن بعض الدراسات كانت حول هذا الأمر تربطه بأحداث سياسية وحروب شبه عالمية، عاشها العالم بعد كورونا وانعكس أثرها سلبا على كثير من اقتصادات العالم فيما كان حظ دول الخليج إيجابيا للغاية، فإن تبعات الحرب الروسية وخضوع دول لا تخفى أهميتها في ملف النفط مثل فنزويلا وإيران ليست هي الأسباب الوحيدة لهذا الأمر، لكنّ هناك نقاطا متسلسلة -في رأيي- أدت إلى هذا النجاح المزعج لهؤلاء الساسة والصحفيين.
فقد وفرت دول الخليج تشريعات وقوانين أسهمت في زيادة السيولة، مما أدى إلى جذب المستثمرين الذين رأوا استقرارا نسبيا في هذه الدول مقارنة بالأسواق الدولية الأخرى.
نجحت دول الخليج -أيضًا- في تنمية مواردها البشرية، فاليوم.. بلا شك يصاب المراقب السياسي والاقتصادي بالدهشة من نجاح تلك الدول الخليجية في اعتمادها على أبنائها الذين درسوا في الولايات المتحدة وأوروبا من أجل ألا يكون العائد فقط من النفط بل أصبحت الاستثمارات والسياحة والترفيه موارد للدخل، وهو ما نلاحظه اليوم بوضوح في السعودية ودولة الإمارات.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه وبلا شك فإن صعود دول الخليج تخشى معه دول أخرى قيام (كونفدرالية خليجية) قد تستطيع تأمين تطوير قدراتها الذاتية وحماية مصالحها الاستراتيجية، فهذه الدول تملك اليوم تميزا مذهلا في المجالات التكنولوجية كما نرى في دولة الإمارات مثلا، وبالتالي فهي تبني ما يسمى (بناء الأمن القومي) لأنها وضعت أسسا صحيحة لمواجهة تحديات قد تقف في طريقها كقوة عالمية اقتصادية وسياسية خلال العقود المقبلة، التي كما قلت قبل قليل سيسهم فيه أبناء هذه الدول بما اكتسبوه من حلول ورؤى لأي تحديات قد تواجه هذا الحلم، الذي أصبح واقعا في رأيي.
أما عن نظرة العالم لهذا الصعود فبات يرى فيه اليوم المعزز (الأفضل) للمشهد العالمي الذي نراه في استقرار أسواق الطاقة والعمل المناخي والسياحة والتجارة، وأصبحت نجاحات دول الخليج في مجالات كتطوير الحلول التقنية ودعم الصناعات التكنولوجية حديث العالم.
في الولايات المتحدة هنا وبالقرب من الكابيتول في واشنطن استفزني قول لأحد الصحفيين، حول تخوفه من أن الصعود المذهل للسعودية والخليج العربي لن ينحصر تأثيره على منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل ستتأثر به الصناديق السيادية في الولايات المتحدة والعالم تحديدا بشكل سلبي، عبر شرائها شؤونا رياضية وعلامات تجارية، فأجبته أن ذلك يعتبر إنجازا لكل العالم؛ حيث إن النهوض بتلك العلامات -إلى جانب أن الاستحواذ عليها أمر تجاري بحت- ونجاحها المستقبلي أمر يدعم اقتصادات العالم كله.
فمؤشرات التنافسية العالمية تؤكد أن تلك الدول نجحت في قيادة تحول اقتصادي عالمي غير نفطي، وهو ما يحسب لها.
في خلاصة، فإن دولا خليجية مثل السعودية والإمارات استطاعت أن تبني رؤيتها الاقتصادية المستقبلية بوضوح لا ينكره إلا حاسد، واستطاعت أيضا مواجهة تبعات الأمن الغذائي، وأنفقت خلال هذه الأشهر من الأموال والمؤتمرات ما هدفت من خلاله لاتحاد جهود التغير المناخي.
ومشاركتي قبل أيام قليلة في تخريج دفعة جديدة من الطلبة السعوديين في أعرق الجامعات الأمريكية وتميزهم بين زملائهم تجيب عن هذا التساؤل.. لماذا كل هذا الصعود غير المسبوق لنجاحات دول الخليج؟ إنه استثمار المعارف والخبرات وإنشاء فرق أعمال وسط متغيرات اقتصادية عالمية وتحولات اجتماعية قادتها رؤية 2030، التي ترى في القدرة التنافسية وسرعتها محققا لكل الأهداف.
والنجاح عبر بناء التحالفات من أجل الاستثمار في المستقبل لا شك أنه صعود يتمناه كثير من دول منطقتنا العربية، لكن سر ذلك الصعود أدركته بعض الدول الخليجية التي صار نجاحها عبئا على ساسة واقتصاديين أمريكيين يتخبطون اليوم في تحديد خصوم أمريكا مستقبلا، وبالطبع لا أبرِّئ بعض الصحفيين الأمريكيين من مثل هذا الموقف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة