تريد بريطانيا أن تخرج تماماً من الاتحاد الأوروبي. لا تريد نصف خروج يجعلها تابعة للتكتل في تفاصيل محددة
تحت وطأة وباء كورونا تخوض بريطانيا أهم مفاوضات في تاريخها الحديث حيث تبحث مع الاتحاد الأوروبي شكل العلاقة التي ستجمع الطرفين بعد انتهاء المرحلة الانتقالية في رحيل المملكة المتحدة عن التكتل.
ولم يتوقف تأثير الوباء على حصر المفاوضات في العالم الافتراضي، وإنما هاجم قادتها وأبعدهم عن مستجدات الحوار لثلاثة أسابيع من أصل ثلاثة أشهر مفصلية في المفاوضات.
تريد بريطانيا أن تخرج تماماً من الاتحاد الأوروبي. لا تريد نصف خروج يجعلها تابعة للتكتل في تفاصيل محددة. هذه القاعدة تعني خوض المفاوضات على أساس الندية بين الطرفين.
المرحلة الانتقالية في طلاق لندن وبروكسل بدأت نهاية يناير/كانون الثاني الماضي وتنتهي بنهاية العام الجاري.
ولكن الحروف الأولى من اتفاق الطرفين لما بعد الطلاق يجب أن تكتب قبل نهاية شهر/يونيو حزيران المقبل. وأمام ضغوط الجائحة على الطرفين يصبح حسم المفاوضات بحاجة إلى تنازلات كبيرة من الطرفين لا يبدو أنهما مستعدان لتقديمها مهما كانت العواقب وخيمة.
في الثلث الأخير من شهر أبريل عقدت الجولة الأولى للمفاوضات بعد تعافي كبير المفاوضين الأوروبيين ميشيل بارنييه من وباء كورونا.
النتيجة جاءت لتعبر بوضوح عن استعصاء الاتفاق. ولكن الصوت البريطاني المؤثر في تلك الجولة حقيقة كان غائباً، لأن رئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون كان لا يزال يصارع المرض خارج جدران الحجرات الضيقة في 10 داونينغ ستريت.
بارنييه قال، في ختام تلك الجولة، إن المملكة المتحدة لم تخض جدياً في المحادثات. فردت الحكومة البريطانية بأنها تبحث عن علاقة متكافئة تربطها مع التكتل. من وجهة نظر لندن يمكن استدعاء تجارب ناجعة للاستفادة منها في المفاوضات، على رأسها الاتفاق الكندي مع الاتحاد الأوروبي.
ولكن يبدو أن بروكسل لا تميل إلى سياسة الكف المبسوطة في التعامل مع بريطانيا لأسباب عدة.
يتحدث الاتحاد الأوروبي عن صعوبة الاتفاق مع بريطانيا حول تفاصيل محددة، مثل الصيد البحري في المياه الممتدة بين الطرفين.
هذا صحيح ولكنه يبوح بنصف الحقيقة فقط. النصف الثاني هو أن لندن ترفض أي اتفاق لا يضع القوانين البريطانية كأولوية في العلاقة مع بروكسل. بمعنى أن بريطانيا ترفض الاتفاق على أي تفصيل تكون الكلمة العليا في مرجعيته القانونية للاتحاد الأوروبي فقط.
تريد بريطانيا أن تخرج تماماً من الاتحاد الأوروبي، ولا تريد نصف خروج يجعلها تابعة للتكتل في تفاصيل محددة. هذه القاعدة تعني خوض المفاوضات على أساس الندية بين الطرفين. ولكن هذا المقدار من الاستقلالية الذي تنشده لندن لا يبدو مرضياً للتكتل، خصوصا لأقطابه الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا. فهو يحيلها مستقبلا إلى منافس شرس للتكتل ودوله، خصوصا على صعيد الاقتصاد.
في نقاط الخلاف بين الطرفين يقدم البريطانيون حلولا استنادا إلى اتفاقات قائمة للاتحاد الأوروبي مع دول أخرى حول العالم.
ولكن ذلك يبدو للتكتل أحياناً بمثابة فرض رأي أو استعجال غير محمود في الحل، على أقل تقدير. هي على عكس لندن، لا تميل بروكسل أبداً إلى الإسراع في إنجاز المفاوضات والوصول لاتفاق ما بعد الخروج، وتفضل تمديد المرحلة الانتقالية إلى عام وربما أعوام.
نصف بريكست يعني بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، والبقاء هنا يعني الفشل بالنسبة للبريطانيين حكومة وشعباً.
ليس فقط لأنه يعني تعثر تنفيذ نتائج الاستفتاء التاريخي عام 2016. وإنما لأنه أيضا يعني المراوحة في المكان وبقاء البلاد في مرحلة ضبابية يدفع الاقتصاد ثمنها باهظاً. وقد يكون الثمن أكثر كلفة من الخروج دون اتفاق الذي تهدد به لندن في حال فشل المفاوضات.
قد يكون الحل في تمديد المرحلة الانتقالية ولكن ليس بحجة ضيق زمن المفاوضات.
هذه الحجة ربما تدفع الحكومة البريطانية نحو الخيار الصعب الذي لا تريده.
وعواقب الطلاق دون اتفاق بين لندن وبروكسل ستكون وخيمة على الطرفين لا محالة، خصوصا إذا ترافقت مع كل التداعيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية المهولة التي ينتظرها الطرفان والعالم ككل بسبب الجائحة.
لم يقدم البريطانيون لحزب المحافظين الحاكم أكثرية مطلقة في مجلس العموم من أجل الوصول إلى نصف "بريكست".
هذه النهاية لمسلسل الخروج المستمر منذ نحو خمس سنوات تبدو قاتمة بالنسبة لهم. والمضي قدماً على ضوئها سيكون مستحيلاً، خصوصا أن اتفاقات التجارة الحرة وخطط التوسع التي أعدتها لندن للانفتاح على العالم، ستبقى معلقة بسبب تبعيتها للاتحاد الأوروبي.
وصحيح أن وباء كورونا جعل مفاوضات ما بعد الخروج تتراجع في أولويتها بالنسبة للمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي على حد السواء.
ولكن التجربة تقول إن سياسة الباب الموصد غير مضمونة النتائج في محاورة بريطانيا. لن يقبل البريطانيون بنصف "بريكست"، ولكنهم قد يقبلون بتمديد مرحلته الانتقالية إن كان إتمامه مستحيلاً. وهذا المستحيل لا يحسم إلا في لندن وتحت قبة البرلمان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة