المفترض أن رمضان وهو شهر الصلة بالقرآن قراءة وتدبرا، مناسبة لتعرف المعاني الراقية التي جاء بها الوحي في هذا المجال
واحدة من أسوأ آثار الأوبئة عبر تاريخها، أنها تعبث بإنسانية الإنسان وتمس بنعمة شعوره بالآخرين واستعداده لمؤازرتهم، وتهدد بقاء روابط التراحم الآدمية بهم؛ بل إن ظروف تلك الجوائح القاسية دفعت بالمجتمعات في بعض الحالات إلى حدود التوحش. حتى خلدت كثير من الأعمال الأدبية، الروائية وغيرها، ذلك الأثر التي تتركه الكوارث من حروب ومجاعات وأوبئة على الروح الإنسانية.
وحتى مع الآثار التي أحدثها تحسن مستوى العيش وإمكانات الناس في عصرنا، فقد شهدنا خلال السنوات الأخيرة بعض المظاهر غير الآدمية التي تلت وقوع كوارث في مناطق مختلفة من العالم؛ لا فرق في ذلك بين الدول غنيها وفقيرها، حين تقع تحت سلطة الخوف والجوع التي اعتبرها القرآن بلاء في قوله سبحانه (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة 155 ).
وحين بدأ انتشار وباء كورونا يُحدث ذات الأثر في النفوس من "رهاب الندرة" وخوف نقص الحاجات الأساسية، هرع الناس في أنحاء المعمور إلى الأسواق ومتاجر السلع الغذائية يتبضعون في شره غير معتاد، حتى صار منظر الطوابير الطويلة أمام المحلات التجارية التي أخليت أرففها من الطعام والسلع الأساسية، بل والكمالية؛ مألوفا في وسائل الإعلام.
لحكمة التراحم هذه، فرضت زكاة الفطر في آخر شهر الصيام، لتعم حينئذ فرحة العيد الجميع، أغنياء وفقراء، ميسورين ومحتاجين.
ومع أن اتجاه الأوضاع إلى الاستقرار، وعدم الانقطاع عن تموين الأسواق بالسلع قد أدى إلى هدأة تلك الفورة من غرائز التهافت على تخزين الأطعمة والمواد المعيشية، إلا أن تزامن ظروف الوباء هذه السنة مع حلول شهر رمضان قد أعاد طرح معضلة الحمى الاستهلاكية المتصاعدة، خاصة في الشهر الكريم الذي هو -للذكرى التي تنفع المؤمنين- مناسبة للارتقاء الروحي والعكوف على الذات، لا موسم تسوق وتكاثر من المشتريات؛ وشهر للصيام بما يعنيه من التزام أخلاق التقلل من الطعام والشراب، والاستغناء عن زوائد المتع والسلع. تماما كما يرمز إليه الصيام في كل الثقافات. ألم يصم غاندي 21 يوما متواصلة للتحسيس بأوضاع الفقراء في الهند؟!
فكيف لا يكون رمضان كذلك، وهو شهر العبادة التي تلزم الإنسان بأن يعيش تجربة المحرومين تعبدا، فترسخ في روحه قيم التراحم معهم والبر بهم، وإطعام جائعهم بما تيسر، ولو كان شق تمرة كما جاء في الحديث الشريف «اتّقُوا النّارَ ولَو بشِقّ تَمرَة» (رواه البخاري ومسلم).
ولحكمة التراحم هذه، فرضت زكاة الفطر في آخر شهر الصيام، لتعم حينئذ فرحة العيد الجميع، أغنياء وفقراء، ميسورين ومحتاجين. كما جعلت تقاليد الكثير من الشعوب المسلمة هذا الشهر الكريم مناسبة لإخراج الناس زكاة أموالهم.
غير أن طغيان قيم الفردانية على حياة كثير من الناس قد انتزعهم من التراحم، ليلقي بهم في دوامة إشباع الرغبات بالاستهلاك، وهي دوامة لا حد لها ولا حل؛ إلا بالخروج منها. إذ الاستغناء الحقيقي كما يقول الجرجاني إنما هو "الاستغناء عن الأشياء -ما أمكن-لا الاستغناء بها" فهذا مسار بلا نهاية وطلب لمالا يدرك.
والمفترض أن رمضان وهو شهر الصلة بالقرآن قراءة وتدبرا، مناسبة لتعرف المعاني الراقية التي جاء بها الوحي في هذا المجال، ففيه سورة تسمى سورة "التكاثر" تحذر من تلك الدوامة المهلكة؛ وهي سورة استوقفت بمعانيها واحدا من كبار الكتاب في القرن العشرين هو المفكر النمساوي ليوبولد فايس (1900-1992م) الذي كان في رحلة بحثه عن الحقيقة قلقا من آثار هذا المسار المادي الاستهلاكي الذي تمضي إليه البشرية، فكان للسورة أثر عميق عليه، انتهى به إلى الإسلام (تسمى بعد ذلك بمحمد أسد، وهو صاحب الكتاب الشهير "الطريق إلى مكة").
ليكن رمضان إذن، وهو شهر القرآن، مناسبة لترويض النفس على لجم شهوات الاستهلاك المنفلتة، وليكن في حال الاستثناء الراهنة هاته، حيث الوباء يعصف بمعايش الناس وأرزاقهم، أدعى إلى الشعور بأحوالهم، فيكون أقوى أثرا في حياتنا. وتكون المحنة أدعى للتراحم والتكافل، بدل التسابق والتكاثر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة