16 عاما على اغتيال الحريري.. قبضة "حزب الله" تنهك لبنان
أزمات شكلت السمة الأبرز للسنوات الـ16 التي أعقبت اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في انسداد رسمه حزب الله.
حادثة فارقة في التاريخ اللبناني الحديث، فضحت المليشيا الإرهابية وأكدت ضلوعها في أزمات البلاد، خصوصا عقب إدانة عضوها من قبل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بـ"المشاركة في تنفيذ القتل المتعمد لرفيق الحريري."
اغتيال وقع في 14 فبراير/ شباط 2005، أدخل لبنان مرحلة جديدة، وشرّع الباب أمام حزب الله ليدخل بشكل أساسي في السلطة، ما كرس الانقسام السياسي ووضع المليشيا وحلفاءها (فريق 8 آذار) بمواجهة "تيار المستقبل" (الذي كان يرأسه الحريري وانتقلت زعامته إلى ابنه سعد الحريري)، بالتحالف مع "حزب القوات اللبنانية" و"الحزب التقدمي الاشتراكي" وعدد من الأحزاب.
ومنذ ذلك الحين، بدأ حزب الله يدخل فعليا مدار السلطة رغم أن قبضته لم تكن بعيدة عنها وإن لم يكن مشاركا فيها بشكل مباشر، وهو ما كان واضحا في الحكومة التي ترأسها عمر كرامي المقرب منه، عند اغتيال الحريري، ليعود ويستقيل على وقع الغضب الشعبي الرافض للعملية.
لكن استقالة كرامي لم تعن ابتعاد حزب الله عن الحكم، وهو ما ظهر بشكل واضح في دعمه لتشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي حصل فيها مع حلفائه، خصوصا رئيس الجمهورية حينها إميل لحود آنذاك، على الأكثرية الوزارية مما جعله ممسكا بقرارها.
وفي حكومة ميقاتي، جرت الانتخابات النيابية التي حقق فيها فريق 14 آذار، (المعارض لحزب الله) فوزا لافتا، وحصل على الأكثرية النيابية ليعود بعدها فؤاد السنيورة، أحد أبرز المقربين من الراحل رفيق الحريري، ويترأس الحكومة في 16 يوليو/ تموز 2005، ويحصل هذا الفريق على أكثرية في عدد الوزراء.
منذ 2005، شهد لبنان أزمات سياسية وأمنية متلاحقة، ونفذت عمليات اغتيال طالت بشكل أساسي المعارضين لحزب الله، ما فاقم الاحتقان الطائفي والسياسي مع توجيه تحالف "14 آذار" الاتهامات بالمسؤولية عنها لحزب الله.
وفي يوليو/ تموز 2006، اندلعت حرب بين حزب الله وإسرائيل أدت إلى تدمير لبنان، وارتفعت حينها بعض الأصوات محملة المليشيا مسؤولية افتعالها، غير أن الأخيرة عادت وردت الصفعة زاعمة أن رئيس الحكومة لم يقف إلى جانبها في الحرب، وذلك عبر تحركات شعبية أعقبها بتقديم الوزراء الشيعة استقالتهم، ويلحق بهم وزير البيئة يعقوب الصراف المحسوب على رئيس الجمهورية، في محاولة منه لإفقاد الحكومة شرعيتها.
الحدث التالي الأبرز والأخطر كان ما يعرف في لبنان بأحداث "7 أيار" (مايو) 2008 الأمنية، وذلك بعد قرارات قامت بها حكومة فؤاد السنيورة تتعلق بشبكة اتصالات حزب الله، اعتبرها الأخير موجهة ضده، ليحول المواجهة العسكرية ضد "تيار المستقبل" و"الحزب التقدمي الاشتراكي"، مؤكدا بذلك أن سلاحه موجه أيضا ضد أبناء شعبه.
وأدت المواجهات إلى تدخل عربي واسع، وعقد في قطر مؤتمر خاص بلبنان برعاية جامعة الدول العربية، انتهى بـ"اتفاق الدوحة" الذي تضمن التوافق على انتخاب قائد الجيش آنذاك ميشال سليمان رئيسا للجمهورية، وانتخابه في 25 مايو/ أيار 2008 خلفا لإميل لحود المنتهية ولايته في نوفمبر/ تشرين الثاني 2007.
ولاحقا، تشكلت أيضا حكومة برئاسة السنيورة حصل فيها تحالف "14 آذار" على الأكثرية من الوزراء، وكانت مهمتها بشكل أساسي الإشراف على الانتخابات النيابية المقامة في يونيو/ حزيران 2009، بوجود أكثر من 200 مراقب أجنبي، وحقق فيها التحالف المذكور فوزا بحصوله على 71 نائبا، وتولى بعدها سعد الحريري -للمرة الأولى- رئاسة الحكومة منذ اغتيال والده.
لكن بداية طريق الحريري الحكومية لم تكن معبدة نتيجة العرقلة التي واجهها من قبل رئيس التيار الوطني الحر آنذاك، ميشال عون، وصهره جبران باسيل، بدعم من حليفهما حزب الله، حيث تمسك عون بطلب توزير صهره الخاسر في الانتخابات النيابية، ما تسبب في اعتذار الحريري عن مهمته، ليعود ويتم تكليفه مجددا بعد حوالي أسبوعين وينجح بتشكيل حكومة في ديسمبر/ كانون الأول 2009.
وعلى خلفية محاربة حزب الله المتواصلة للمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري، ورفضه الاعتراف بها ومحاولة تعطيل عملها، عمد مع حلفائه إلى إسقاط حكومة الحريري عبر استقالة 10 وزراء من التكتل الذي يرأسه باسيل، بالتحالف مع حزب الله وحركة أمل، تلتهم استقالة وزير الدولة عدنان السيد حسين المقرب أيضا من حزب الله، والذي كان محسوبا على الرئيس ميشال سليمان، لتسقط بذلك حكومة الحريري بعد استقالة أكثر من ثلث وزرائها وفقدان نصابها الدستوري، وتتحول إلى حكومة تصريف أعمال.
وظل الأمر على حاله إلى حين تشكيل الحكومة الجديدة في 13 يونيو/ حزيران 2011، حيث تم تكليف نجيب ميقاتي رئيسا للحكومة بدعم من حزب الله وحلفائه، وكان حينها من خصوم الحريري، لكن حكومته نالت الثقة فقط بأصوات الحزب وحلفائه بعدما انسحب فريق 14 آذار منها، لخلاف حول البند المتعلق بسلاح المليشيا في البيان الوزاري.
وفي العام نفسه، بدأت الأزمة السورية التي انعكست على المشهد اللبناني الذي انقسم بين مؤيد للنظام ومعارض له، لتتفاقم الأمور أكثر مع تدخل حزب الله العلني بالحرب في العام 2013، ما تسبب في توتر سياسي وخلافات حادة لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم.
وفي عهد ميشال سليمان، عاد الفريق المعارض لحزب الله إلى رئاسة الحكومة عبر تكليف تمام سلام المقرب من الحريري، لكن مهمته أيضا لم تكن سهلة أمام العرقلة المعتادة التي يقوم بها حزب الله.
لكن عودة الحريري أيضا كانت مرتبطة بظروف سياسية استثنائية في لبنان، وصل فيها الاحتقان إلى أعلى مستوياته وفراغ في رئاسة الجمهورية لمدة سنتين ونصف، بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان، وكل ذلك نتيجة تعطيل حزب الله وحلفائه، على رأسهم التيار الوطني الحر، والذين يمتلكون الأكثرية في البرلمان، لرفضهم انتخاب أي شخصية أخرى غيره، رغم ترشيح عدد من الشخصيات المعارضة بينهم رئيس حزب القوات اللبنانية، لينجحوا أخيرا في ضغوطهم وينتخب عون رئيسا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
وفي العام 2018، أجريت الانتخابات النيابية الأولى بعد تمديد ثلاث مرات للبرلمان نتيجة الأوضاع السياسية، وعقب الاتفاق على قانون انتخاب جديد، ضمن خلاله حزب الله وحلفاؤه الأكثرية النيابية، وبالتالي سيطرتهم على مجلس الوزراء عبر تمثيل الكتل النيابية بوزراء محسوبين عليهم.
غير أن تشكيل الحكومة لا يعني تسهيل عملها، فالعرقلة استمرت وفشلت الحكومة في تحقيق أي أمر من شأنه أن ينعكس إيجابا على الوضع اللبناني المتردي أصلا، وصولا إلى سقوط حكومة الحريري تحت ضغط الشارع في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وهو القرار الذي عارضه حزب الله الذي كان يعتبر أن على الحريري ألا يخضع للضغوط، وهو ما لم يتقيد به الأخير، واعتبر قراره حينها صفعة لحزب الله والعهد (الرئيس ميشال عون) الذي أتى بوعود بالإصلاح والتغيير، لكنه فشل في تحقيق أي منها.
وبعد استقالة الحريري، شكل حزب الله وحلفاؤه في يناير/ كانون الثاني 2020، حكومة محسوبة عليهم بشكل كامل من رئيسها حسان دياب إلى كامل وزرائها، وأطلقت شعارات ووعودا للشعب اللبناني لم تتمكن من تحقيقها أبدا نتيجة الخلافات بين الفريق نفسه، إلى أن جاء انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب من العام نفسه، ليزلزل الأرض تحت أقدام الطبقة الحاكمة.
ورغم أن التحقيقات لم تتوصل إلى نتائج نهائية حول سبب وجود "نيترات الأمونيوم" في المرفأ، فإن الأصوات تعالت متهمة حزب الله بالمسؤولية بشكل مباشر أو غير مباشر، لا سيما انطلاقا من سيطرته على المرافق في لبنان وعلى رأسها المرفأ.
كارثة أعادت الاهتمام الدولي بلبنان بعد ابتعاده عنه لأسباب مرتبطة بشكل أساسي بسيطرة حزب الله عليه، تخللتها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت وطرحه مبادرة تقضي بتشكيل حكومة مصغرة من غير السياسيين، وفق مبدأ المداورة في توزيع الوزارات على الحقائب، وهو ما وافق عليه الفرقاء، ليتم تكليف السفير مصطفى أديب للقيام بالمهمة، قبل أن يتراجع الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) ويعرقل تشكيلها نتيجة تمسكه بالاحتفاظ بوزارة المال، ما أدى إلى اعتذار أديب عن إكمال مساعيه.
حيثيات أدت إلى عودة الحريري إلى المواجهة مجددا وطرح نفسه لرئاسة حكومة وفق المبادرة الفرنسية، وهو الأمر الذي عارضه الرئيس عون وصهره في البداية ليخضعا بعد ذلك -نتيجة حصول الحريري على أصوات الأكثرية النيابية- ويتم تكليفه مرة جديدة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
السيناريو نفسه عاد ليتكرّر أمام مهمة الحريري من قبل باسيل وعون، مدعومين بحليفهما حزب الله، وذلك عبر فرض شرط حصولهما على الثلث المعطل في الحكومة، أي سبعة وزراء من أصل 18 وزيرا، إضافة إلى مطالبتهما بحقائب الداخلية والعدل والدفاع، وهو ما يرفضه الحريري الذي لا يزال مستمرا بالمواجهة ومتمسكا بالمبادرة الفرنسية، في انقسام يعكس عدم وجود أي آمال قريبة بإمكانية تشكيل الحكومة، التي يربطها البعض بانتظار الضوء الأخضر من إيران.
وبعد إلغاء المراسم السنوية التي كان يقيمها "تيار المستقبل" في ذكرى اغتيال الحريري، من المنتظر أن يقتصر هذا العام على كلمة متلفزة لنجله سعد.