تستدعي أوضاع كورونا استحضار فلسفة اللغة الصينية، حيث الأشكال تعبر عن المضمون والمحتوى، والأزمة ترسم من خلال ما يفيد بالخطر أو الفرصة
ما هو الأسوا من القلوب اللحمية؟ قطعا القلوب الحجرية، وما هو الخطر الأشد وقعا على العالم من فيروس كورونا؟ بلا شك ومن غير أي تفكير إنه فيروس الكراهية الذي يملأ القلوب والعقول، ويعيق المودات بين البشر.
أفرزت الأسابيع القليلة الأخيرة حالة من الذعر حول العالم، أخرجت عند القلة ما هو طيب، ومن أسف أكدت أن الكثرة مصابة بداء التمحور حول الذات، والأنانية القاتلة، وكلاهما يولد كراهية ويفجر عنصريات لا تحد ولا تمد.
عرفت البشرية في مسيرتها العديد من الأوبئة الفتاكة، إلا أن العالم الذي كان يعيش في جزر منعزلة لم يعهد حالة من الهلع كمثل تلك التي نراها من حولنا هذه الأيام.
يمكن أن يكون كورونا فرصة لمراجعة أحوال إنسانية معذبة، أثبتت الملمات أنها في النهاية أسرة واحدة، تعيش على أرض واحدة، وحين تتألم فإنها تشعر بالألم الواحد، وفي نهاية المطاف ترفع أكفها بالدعاء والتضرع لرب واحدتستدعي أوضاع كورونا استحضار فلسفة اللغة الصينية؛ حيث الأشكال تعبر عن المضمون والمحتوى، والأزمة ترسم من خلال ما يفيد بالخطر أو الفرصة.
يمكن أن يكون كورونا فرصة لمراجعة أحوال إنسانية معذبة، أثبتت الملمات أنها في النهاية أسرة واحدة، تعيش على أرض واحدة، وحين تتألم فإنها تشعر بالألم الواحد، وفي نهاية المطاف ترفع أكفها بالدعاء والتضرع لرب واحد.
إنها وعن حق لحظة "الإخوة الإنسانية"، التي تترجم فيها الشعارات إلى أفعال رحمة ورأفة، شفقة ومودة بين جميع البشر، من أقصى المسكونة إلى أقصاها، ومن الشمال إلى اليمين، كل واحد باسمه، وكل واحدة باسمها.
إنها "الإخوة الإنسانية" التي صدرتها الإمارات العربية المتحدة للعالم في شهر فبراير/شباط من العام الماضي، حين وقّع بابا الفاتيكان وشيخ الأزهر وثيقة كفيلة بأن تستنقذ البشر من بحار المهالك، وتنتشلهم من يم العنصريات، وتباعد بينهم وبين أزمنة الأصوليات الضارة والقوميات والشوفينيات القاتلة.
لم تكن وثيقة الإخوة الإنسانية مجرد دعاية أو حدث بروتوكولي، وإنما فعل خلّاق يسعى لتغيير وجه العالم، ومن هذا المنطلق جاء قرار الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي بتشكيل لجنة تتابع أعمال هذه الوثيقة، الأمر الذي يؤكد الحرص على تنفيذ رؤى مشتركة لبلورة المبادرات والأفكار الداعية إلى التسامح والتعاون والعيش المشترك، ووضعهما موضع التنفيذ.
منذ بداياتها وحتى اليوم تسعى الإمارات العربية المتحدة في طريق دعم الجهود الساعية لتعزيز السلام ونشر مبادئ الإخاء والتعايش السلمي على مستوى العالم، ومن هنا يمكن للمرء أن يتفهم العمق الإنساني الكبير الذي جاء في البيان الذي صدر عن "لجنة الإخوة الإنسانية"، في زمن المحنة التي تسبب فيها كورونا.
لم يهون البيان أو يهول من شأن الفيروس المزعج والمخيف الذي أصاب البشرية، ولا يزال يضرب في كافة بقاع وأصقاع العالم، لكنه يشير إلى أن الإساءة الحقيقية التي يجب أن يخشاها العالم وبأكثر من إصابة الجهاز التنفسي هي إصابة إنسانيتنا في صميمها، لا سيما عندما نغمض أعيننا عن معاناة إخوتنا، وننطلق في حملة التنميط العنصري، تلك التي لن تنقذ أحدا من العدوى، بل على العكس تماما ستؤدي إلى شلل لا ينفع معه بعدها دواء.
عما قريب سيجد الأطباء والعلماء أمصالا للوقاية من كورونا، كما فعلوا من قبل مع أخواتها من الفيروسات التي تحارب البشرية عبر الزمان، في تحد لا تفهم أبعاده، ولماذا هذا العداء؟ ومن يقف وراء هذا الشر داخل ثنايا الطبيعة؟ وهذه قصة فلسفية أخرى.
غير أن البحث الأعمق المدعوة الإنسانية برمتها لسبر أغواره، هو البحث عن اختبار إنسانيتنا ومنظومة الأخلاق التي تحكمنا، ذلك أنه رويدا رويدا سوف تتكشف الآثار الكارثية للفيروس على أصعدة الحياة، لا سيما في ظل براجماتية أحادية تقليدية، ونرجسية غير مستنيرة، وفي عالم من العولمة التي ملأت الكثير من آثامها البر والبحر، عولمة همشت الضعفاء وسحقت الفقراء، ما جعل النسيج الاجتماعي البشري عند أضعف أوضاعه في حاضرات أيامنا.
ولّد "كورونا" حالة من "الاكزنوفوبيا" المقيتة، أي كراهية الأجانب، واعتبار الآخر -لا سيما الأجنبي- الجحيم الذي قال عليه سارتر ذات مرة، باعتباره الحامل للعدوى، الأمر الذي يمكن ملاحظته عبر تقطيع أوصال العالم، وتحويله إلى جزر منعزلة لا علاقة لبعضها ببعض.
فيما الكارثة وليس الحادثة الأشد هولا، فتتمثل في تحطم المعايير الإكسيولوجية "القيمية"، من خلال توظيف المرض في إنتاج أفكار أكثر مرضا، ولغة كريهة في سياق تبرير غضبنا وخوفنا من الآخر، حسب تعبير بيان لجنة الإخوة الإنسانية.
أحسن القائمون على متابعة وثيقة الإخوة الإنسانية حين شددوا على أن الوباء الحقيقي الذي يتوجب على الجميع خشيته هو الكراهية، وفيما نقلق على أولادنا من جهة كورونا -وهو قلق مشروع- فإنه ينبغي أن يشتد قلقنا حال كانوا عرضة للإصابة بأفكار ملوثة وقيم منحرفة تجعل من نهارهم قلقا، وتحيل ليلهم إلى قلق، ما يستعصي على المضادات واللقاحات والتي هي أشد فتكا من الجراثيم والفيروسات.
عبر تويتر كان الحبر الأعظم البابا فرنسيس يكتب عن ضرورة الشعور بالمتألمين والذين لا يجدون من يساعدهم، ويشدد على ضرورة أن تصل صرخاتهم إلى آذاننا.
أما دائرة العلمانيين والعائلة والحياة في الفاتيكان فقد اعتبرت أن الظروف الحالية تجعلنا ننظر إلى قيمة العائلة الإنسانية، بوصفها ملاذا وقوة محركة، تبث في كل منا حس المسؤولية والتضامن والقوة والحذر والمشاركة والمساعدة المتبادلة في الصعوبة.
الإمارات استبقت تلك التصريحات بتحركات ملؤها الرحمة بالفعل، ما تمثل في مبادرة ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، في مساعدة أبناء العرب في الصين الذين تقطعت بهم الأوصال ولم يجدوا من يمد لهم يد المساعدة وإنقاذهم من وهدة كورونا.
ولم يتوقف الأمر على مجرد تسهيل وسيلة الانتقال، بل وفرت لهم ولغيرهم مدينة سكنية تليق بالكرامة البشرية على أرض الإمارات، لحين التأكد من سلامة أوضاعهم الصحية.
ما قام به الشيخ محمد بن زايد هو فعل رحمة ورأفة حيال الإنسانية، الأمر الذي يعزز نظرة بلاده للعالم، والذي لم يعد قرية صغيرة كما ذهب إلى ذلك مارشال ماكلوهان عالم الاجتماع الكندي الشهير في ستينيات القرن الماضي، بل بات" حارة كونية"، يتجاور ويتحاور فيها عدة مليارات من البشر عبر وسائط التواصل وأدوات التكنولوجيا الحديثة.
لعل الوجه الآخر من كورونا هو أنه وضعنا أمام استحقاقات أسئلة جوهرية عن أنفسنا، وعن معنى الحياة، وكيفية عيشنا، استحقاق يتجاوز نظرتنا لمكافحة فيروس ولو فتاك، إلى ما هو أنفع وأرفع، أي نظرة إلى بشرية إما أن تتألم معا، وإما أن تتمجد معا بانتصار الحب على الكراهية، والخير على الشر، والفضيلة على الرذيلة.. فانظر ماذا ترى!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة