يواصل الثعلب "هنري كيسنجر" في 2023 أدواره البارزة في بلورة توازنات النظام الدولي، كونه أحد أبرز منظري استقرار العلاقات بين أهم اقتصادين في العالم، برغم إكماله مئة عام من عمره.
يدافع كيسنجر عن مفاهيم توازن القوى بين اللاعبين الرئيسيين في العالم، فدعم الصين ضد روسيا سيكون لصالح أمريكا، وفوائد توزان العلاقات أكبر بكثير من حروب الاحتواء، ومن الصعب فصل الصين عن الولايات المتحدة، بسبب تداخل المصالح الاقتصادية بين البلدين.
ويعتبر كيسنجر أحد أعلام الدبلوماسية العالمية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الجديد، فلقد شهد أهم الأحداث الدولية، حين تولى قبل نصف قرن مناصب: مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية، وهو الوحيد على قيد الحياة من إدارة الرئيس الأمريكي الراحل ريتشارد نيكسون، وأكبر وزير خارجية أمريكي سابق على قيد الحياة، ولعب بعد تركه المناصب، أدوارًا دبلوماسية مرتبطة بضبط توازنات العلاقة بين واشنطن وبكين، نال بها تقدير الجانب الصيني بشكل واضح، ليحصل على حفاوة استقبال، لم يحظ بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، خلال زيارته لبكين.
لم تكن زيارة كيسنجر لبكين للسياحة، بل تتزامن مع تصاعد التنافس الاقتصادي السياسي بين الولايات المتحدة والصين، والتي ازدادت حدتها خلال الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، واستمرت في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بسبب دعم واشنطن لتايوان.
ما أعاد إلى الأذهان زيارة كيسنجر لبكين عام 1971، في أجواء مشابهة، تمكن من خلالها تفعيل أدوات الحوار، تحضيرا لزيارة الرئيس نيكسون التاريخية عام 1972، ما وضع حينها حدًا لعزلة الصين، ومهد لصعودها مع الاقتصادات الآسيوية، ليصل حجم الاقتصاد الصيني فيما بعد إلى المركز الثاني عالميًا.
ولهذا تؤمن القيادة الصينية بجهود كيسنجر لتقريب وجهات النظر، ما يفسر لقاءه بالرئيس الصيني شي جي بينغ، ووزير الدفاع لي شانغو فو الذي رفض لقاء نظيره الأمريكي لويد أوستن خلال (حوار شانغريلا الأمني) في سنغافورة، لأنه مشمول بالعقوبات الأمريكية.
يؤمن كيسنجر في تصوراته حول النظام العالمي بالواقعية السياسية، لنزع فتيل المواجهات التي قد تعيد البشرية إلى أجواء الحروب العالمية بمآسيها وكوارثها، وليس بغريب ورسالته للدكتوراه، كانت حول "دبلوماسية المستشار النمساوي كليمنتس فون ميتيرنيخ بعد حروب نابليون" ومستقبل الحرب والسلام في أوروبا، وكيف استطاع وزير النمسا إسقاط نابليون في ميادين الدبلوماسية.
مواجهة الصين اليوم أعقد بكثير من الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة، فالعملاق الصيني أسس كيانا اقتصاديا بشريا عسكريا، يصعب مواجهته عبر سياسات الاحتواء، والتي بسببها واجهت أمريكا ما بعد الحرب العالمية الثانية، القوى الشيوعية والاتحاد السوفياتي في حروب دامية.
التطورات الدولية تحتم ضرورة تغيير واشنطن لاستراتيجيتها مع بكين، فحضور الصين في جنوب شرق آسيا جعل العديد من تلك الدول تختار الاصطفاف معها، بفضل المساعدات والاستثمارات، بالإضافة إلى تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية التي دفعت حلفاء واشنطن التقليديين، للاتجاه نحو "مجموعة بريكس"، والظروف الموازية للأزمة الأوكرانية التي وضعت روسيا في حديقة الصين الخلفية.
وهو ما ذكرته في مقالي بتاريخ 31 مارس/آذار 2023، بعنوان (محور الصين - روسيا والمواجهة مع أمريكا)، جاء فيه: "كلما طالت الحرب الروسية الأوكرانية، زاد اعتماد موسكو على بكين" كما ذكرت "بإمكان التنين الصيني مواجهة القطب التقليدي في واشنطن عبر الأداة الروسية، وسيعيد تأهيل الصين كقوة عالمية".
وسيناريو معاداة الصين وروسيا لا يصب في صالح الولايات المتحدة، وسيجعل العالم مضطربًا في ظل التصادمات الراهنة، بينما التوازن التنافسي سيجعل الاستقرار مستدامًا بين الاقتصادين الأثقل عالميًا، مع استمرار روح التنافس والمرونة بشكل براغماتي.
عندما تشتد التحديات العالمية يحتاج العالم إلى حكمة كيسنجر، فحينها في السبعينات استخدمت الصين في الحرب الباردة تجاه الاتحاد السوفياتي، ما أدى الى تفككه، والوضع الآن اختلف مع قوة الاقتصاد الأمريكي والصيني، واصطفاف الصين وروسيا في صف واحد (ولو نسبيا)، فنقاط الالتقاء عديدة.
المواجهة بين بكين وواشنطن مرفوضة، وستدفع الاقتصاد العالمي للانهيار، ما يجعل تنظيم التوازن لعقود مقبلة هو الحل الأمثل، واستمرار الصين في موقعها الحالي في عالم القطب الأوحد، أو عالم متعدد الأقطاب، وسنحتاج حينها إلى كيسنجر جديد، ليضبط ساعة التوازنات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة