حين يحتفظ سياسي أمريكي بأهميته وحضوره العالمي، ويظل يباشر مهامَّ دبلوماسية ويضطلع بدور سياسي عالمي وإن لم يكن رسمياً، فهو حالة نادرة في تاريخ الدبلوماسية والمشهد السياسي الدولي.
أما أن يكون هذا الشخص الاستثنائي قد بلغ من عمره مائة عام، فإن الأمر يختلف تماماً من حالة نادرة وجديرة بالتسجيل والتأمل، إلى حالة فريدة من نوعها عبر التاريخ.
هنري كيسنجر الذي أكمل مائة عام من عمره، قام مؤخراً بزيارة إلى بكين وهو محتفظ بصفاء الذهن وحيوية العقل، ما أبهر المراقبين في العالم. فالرجل الذي كان وزيراً للخارجية ومستشاراً للأمن القومي الأمريكي قبل نصف قرن، وتولى قيادة ما عرف بالمسار الثاني أو الدبلوماسية الخفية بين واشنطن وبكين مطلع السبعينيات، ها هو يلعب من جديد دوراً في إدارة وربما ترشيد العلاقات الأمريكية - الصينية التي يغلب عليها فتور دائم لا يخلو من أزمات حادة بين حين وآخر.
فقد قام هنري كيسنجر يوم الثلاثاء الماضي بزيارة للصين استمرت 3 أيام، قوبل خلالها بترحيب كبير لم يحظَ به كبار المسؤولين الأمريكيين الذين استقبلتهم بكين مؤخراً، وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن.
ومن المفارقات ذات الدلالة في تلك الزيارة أن لقاءات كيسنجر في زيارته مع كبار المسؤولين الصينيين، بدأت بوزير الدفاع الصيني لي شانج فو.
ولأن الوزير الصيني مشمول بالعقوبات الأمريكية على بلاده، فإنه رفض لقاء نظيره الأمريكي مؤخراً في محفل دفاعي دولي بسنغافورة، بينما كان حريصاً على استقبال هنري كيسنجر في يوم وصوله إلى العاصمة الصينية.
ثم تأكدت خصوصية زيارة كيسنجر للصين وحرص بكين على تحصيل أقصى استفادة منها، بترتيب لقاء له مع الرئيس شي جين بينغ، الذي استقبل كيسنجر بحفاوة ملحوظة ووصفه بأنه "صديق قديم".
بالتأكيد يعود هذا الترحيب إلى احترام الصينيين لكيسنجر وتقديرهم لدوره التاريخي في نزع فتيل التوتر بين البلدين وتحسين العلاقات خلال السبعينيات، لكن المغزى الأعمق في تعاطي بكين مع الزيارة بل وفي إتمامها من الأساس، هو التعبير عن رغبة صينية في تغيير نمط إدارة العلاقة في المرحلة الحالية.
فبكين تبعث برسالة إلى إدارة بايدن بأن منهج كيسنجر ومنطقه في إدارة العلاقات أكثر جدوى ومقبولية مما تقوم به الإدارة الحالية.
ورغم أن كيسنجر أعلن صراحة أكثر من مرة خلال السنوات الماضية أن الصين هي المشكلة الأكبر أمام واشنطن، وأن التعاطي معها أكثر صعوبة بكثير مما كان الوضع مع الاتحاد السوفياتي السابق، فإنه أيضاً يتمسك بضرورة تبني نهج أكثر براغماتية ومرونة وفاعلية في وقت واحد.
ويجسد رد فعل إدارة بايدن على زيارة كيسنجر، طبيعة التعامل الأمريكي مع الصين، حيث أبدى البيت الأبيض رغبة في الاستماع إلى ما لديه من أطروحات ونصائح، لكنه في الوقت نفسه أبدى أسفه لأن كيسنجر "الدبلوماسي السابق"، حظي في بكين باستقبال لم يحظَ به بعض المسؤولين الأمريكيين الحاليين.
هنا يكمن جوهر معضلة واشنطن في علاقاتها مع بكين، وربما مع دول أخرى في العالم؛ وهي تغيير المعايير وافتقاد الموضوعية في قياس الأمور، فهي من ناحية تفرض عقوبات على الصين ومسؤوليها، لكن تتمنى لمسؤوليها استقبالاً أفضل مما جرى لكيسنجر، وهي أيضاً التي طلبت أن يلتقي وزير دفاعها نظيره الصيني، الذي يخضع لعقوبات أمريكية رسمية!
والحاصل أن الجانب الصيني لا يقبل تلك الانتقائية ولا ذلك التناقض الأمريكي، ولا يكتفي الصينيون برفض صامت، وإنما يبادرون ويتحركون على مسارات مختلفة وفي اتجاهات متنوعة، مما يزعج الأمريكيين بشدة.
خاصة بعد أن امتلكت بكين إمكانات وقدرات عالية في شتى المجالات وبمختلف مقاييس القوة الشاملة للدولة، فبينما بدأ الاتحاد السوفياتي السابق عملاقاً بشرياً واقتصادياً وعسكرياً، لم يحتفظ سوى بقوته العسكرية العظمى، ثم انتهى به الحال إلى الانهيار في بضعة عقود.
أما الصين فاتخذت تسلسلاً عكسياً، بدأته بقوة عسكرية وسرعان ما انتقلت إلى الاستفادة من ضخامة رصيدها البشري لتصبح عملاقاً اقتصادياً، ثم ها هي تصبح قوة عظمى بكل المقاييس.
هناك عامل آخر عميق التأثير في مسار العلاقات الأمريكية - الصينية، وقد يكون لزيارة كيسنجر دور في تنبيه واشنطن إليه، وهو أن شمولية التقدم الصيني تستوجب بالضرورة الشمولية وليست الأحادية أو الانتقائية في التعاطي معها، فلا العقوبات وحدها ولا الاحتواء وحده ولا الاختراق الجيواستراتيجي للمجال الحيوي وحده سيمكن واشنطن من تجنب ما تعتبره خطراً أو تهديد العملاق الأصفر، وإنما فقط ما سمّاه كيسنجر في كتاباته عن الصين "التوافق" أي تطبيق رؤية متكاملة يتم العمل بموجبها على مسارات متوازية بعضها ضاغط وبعضها تعاوني وكلها قابلة للتعديل والتصعيد أو التهدئة وفقاً للمتغيرات والنتائج.
فكيسنجر يدرك تماماً صعوبة بل استحالة تحقق انفصال أمريكي كامل عن الصين، بحكم التداخل الشديد في المصالح الاقتصادية خصوصاً والاعتماد المتبادل الذي يصعب تفكيكه في المدى المنظور. بل إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تدرك ذلك أيضاً، لكن الفارق المهم، أن خبرة وحنكة هنري كيسنجر تسمح له بمعرفة حدود قدرات بلاده والسقف الممكن لتحركاتها مقارنة بالأطراف الأخرى في العالم، بينما تتصرف معظم الإدارات الأمريكية في العقود الأخيرة، كما لو كانت القوة العظمى الوحيدة في العالم، وتملك تغيير سلوك توجهات هذا العالم وفقاً لإرادتها المنفردة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة