العارفون ببواطن الأمور يدركون أن لكل رئيس أمريكي حلم يسعى إلى تحقيقه، وحتى يضمن له أن يكتب اسمه في سجل القياصرة الأمريكيين.
أرتجت الأمم وتفكرت الشعوب، ما عساه يحدث في الداخل الأمريكي، خلال الساعات القليلة الماضية؟
الجواب يحتاج إلى دراسات شافية وافية، لا سيما ونحن أمام عشرات الآلاف من الإيميلات التي تعود إلى وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، إبان شغلها منصب وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة ما بين 2008 و 2012، أي الفترة التي واكبت ما عرف باسم الربيع العربي، والذي لم يتجاوز في حقيقة المشهد زمن الشتاء الأصولي القارس والقاتل معا .
إيميلات هيلاري تمثل كنزا معلوماتيا لفهم كيف كانت إدارة أوباما تفكر، والأمر لا يلقي بظلاله على الماضي فحسب، إذ يمكن أن يتكرر المشهد حال عودة الديمقراطيين للبيت الأبيض وبنفس العقلية الأوبامية.
توضح إيميلات الوزيرة كلينتون كيف أنه وذات لحظة من الزمن، استطاع أنصار جماعات الإسلام السياسي اختراق البيت الأبيض، غير أن السؤال :" هل جرى هذا الاختراق في زمن أوباما، الرجل الذي تجرأ على الأمل، واعتقد العالم العربي أنه سيكون مناصرا لقضاياهم العادلة، فإذ به نار وكبريت ثورات و"فورات" دموية، أم أن المشهد له جذور تاريخية؟
الجواب بالقطع لا، فالاختراق الذي نتحدث عنه جرت به المقادير من زمن الرئيس آيزنهاور، والذي استقبل في البيت الأبيض عام 1953 سعيد رمضان صهر حسن البنا ووالد طارق رمضان الذي شغل الأوروبيين مؤخرا بجرائمه الأخلاقية .
كان الأمريكيون قد انساقوا وراء أفكار "لاهوت الاحتواء"، ذاك الذي وقف وراءه الأخَوان جون فوستر دالاس وزير الخارجية، وآلان فوستر دالاس، مدير الاستخبارات الخارجية الأمريكية، وقد كان والدهما قسا بروتستانتيا، ولهذا كانت أفكار لاهوت الاحتواء تمضي في سياقات ومساقات مواجهة الشيوعية بوصفها الشر الروحي الأكبر الذي يجابه العالم، ومن هنا اعتبر الإسلام قوة روحية قادرة على قطع الطريق على الشيوعية، و منعها من الوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي .
عبر خمسة عقود جرت مياه كثيرة بالمد تارة والجزر تارة أخرى بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبين التيار الإسلاموي عربيا وشرق أوسطيا، وامتلات رؤوس الكثيرين في الخارجية الأمريكية بأفكار مدسوسة، ووصل الأمر بأن أضحى للإخوان المسلمين ممثلين فيها، وفي مقدمهم " هوما عابدي "، سكرتيرة هيلاري كلينتون والتي تعود أصولها إلى أسرة إخوانية.
كان هذا المدخل مهم لنعرف لماذا اتخذت إدارة أوباما هذا الطريق في التعاطي مع العالم العربي منذ 2011 .
غير أن المشهد لا يكتمل إلا إذا وضعنا في الصورة وهمين سيطرا على مقدرات أفكار ساكن البيت الأبيض لثمان سنوات متصلة وهما على النحو التالي :
** أولا : وهم اعتبار التيارات الإسلاموية العربية والشرق أوسطية بقيادة الإخوان المسلمين، تيارات معتدلة، قادرة على إدارة شؤون المنطقة، والإمساك بزمام الأمور فيها .
ثانيا : أن مجيئ الراديكاليين على هذا النحو، ربما يوفر على الولايات المتحدة إشكالية التعاطي مع كل دولة على حدة، ذلك أنه سيكون هناك رأس واحد يمكن إبرام الصفقات معه وهو المرشد العام للإخوان المسلمين، بالضبط كما الحال في إيران والتعاطي مع المرشد في طهران.
لم يكن هدف إدارة أوباما أبدا صالح أو مصالح العرب أو الشرق أوسطيين، بل على العكس من ذلك، فقد تركت أحداث الحادي عشر من سبتمبر جرحا غائرا في نفوس الأمريكيين وتساؤلات مستمرة ومستقرة عن أفضل السبل لتعديل أوضاع هذا الإقليم المضطرب والخلاص من أزماته، وذلك حتى تتفرغ واشنطن لإدراك استراتيجيتها الأكبر والأهم، استراتيجية الاستدارة نحو آسيا ..ومحاصرة روسيا والصين، وقطع الطريق على أي قطب يفكر في منافسة الولايات المتحدة الأمريكية طوال القرن الحادي والعشرين .
العارفون ببواطن الأمور يدركون أن لكل رئيس أمريكي حلم يسعى إلى تحقيقه، وحتى يضمن له أن يكتب اسمه في سجل القياصرة الأمريكيين .
ربما أثبتت تجربة اختيار القوة الخشنة في العراق وأفغانستان فشلا كبيرا، ولعل هذا هو الدرس الذي تعلمه أوباما من بوش الابن، ولهذا التف على التضاريس عبر الدعم المباشر لتيار الأخوان المسلمين وبقية أطيافه وأطرافه في العالم العربي، الأمر الذي توضحه وبجلاء إيميلات هيلاري المفرج عنها وليست المسربة.
تثبت المخاطبات التي جرت بين الأمريكيين والإخوان مقدار الخيانة الساكنة تحت جلد هذا الفصيل، والذي لم يعرف أبدا أي معنى أو مبنى للوطنية، ففكرة الأممية الإسلاموية تجب محبة الأوطان .
وبالقدر نفسه توضح إيميلات هيلاري أن براجماتية إدارة أوباما غير المستنيرة لا تفيد، فقد فقدت واشنطن الكثير من مربعات نفوذها شرق أوسطيا وعربيا، وملأت موسكو وبكين الكثير منها، وبدأ الجميع يتساءل عن مسألة ضبط المسافات بين العواصم العربية وبين واشنطن، وبحيث لا تضحى كافة أوراق اللعب في يدها .
تطرح إيميلات هيلاري المفرج عنها من قبل بومبيو وبضغط كبير من ترامب سؤالا حيويا ...هل تيار الإسلام السياسي قدر مقدور في زمن منظور لا فكاك منه؟
تبين بعض الإيميلات حالة الصمود العربي – العربي، تلك التي أعقبت ثورة المصريين في 30 يونيو، فقد بدا واضحا أن إدارة أوباما قد تلقت صدمة كبرى من جراء إسقاط الجيش المصري بأوامر الشعب المصري لهذا الفصيل غير الوطني ،وقد مضت في عقاب مصر ماديا ووقف بعض برامج المساعدات العسكرية، غير أن ما قامت به المملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة بنوع خاص لمساندة أشقائهم في مصر، أكد ومن جديد أيضا أن طرح القضايا المصيرية يبدأ من الذات وليس من الآخرين، ما يفيد بأن الخلاص من هذا التيار المارق ممكن بل مطلوب ومرغوب .
الإيميلات الهيلارية إن جاز التعبير وإن وضحت مواقف مشرفة ونزيهة، أخوية صادقة من قبل العرب بعضهم لبعض، إلا إنها ومن سوء الطالع أظهرت منعطفات الخيانة لدى البعض الآخر كما في حال قطر، تلك التي مثلت ولا تزال خنجرا في خاصرة العرب، وماكينة نقدية للإنفاق على أصحاب سر الإثم من الإخوان والسلفيين وبقية جماعات المغالاة الدينية، ومراجعة الإيميلات عما قريب والتي تجتاز الثلاثين ألفا، سوف توضح لنا مقدار الخيانة التي ارتكبتها قطر ولاتزال في حق نفسها أولا، وحق الأشقاء العرب تاليا .
هل توقيت هذا الزلزال أمر عشوائي؟
لا يمكن أن يكون ذلك كذلك بأي حال من الأحوال، فيما الأهم هو ردات الفعل على ما كان معروفا والآن تأكد بالدليل الملموس والقاطع ، ففي الداخل الأمريكي تلقى الديمقراطيون طعنة نافذة ولاشك.
ماذا عن العالم العربي؟ الدعوة مفتوحة لقراءة هذا الكنز المعلوماتي بعقل بارد يتجاوز الحدث، وبهدف قراءة كيف يفكر الآخر، وما هي أنفع وأرفع ميكانيزمات التعامل معه في الحال والاستقبال .
الخلاصة... الذين يقرؤون لا ينهزمون... وللحديث بقية .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة