"إنه لَأمر محزن أن تتحدث الطبيعة، ولا يُصغي إليها الجنس البشري".. فيكتور هوجو
لا بدَّ من أن أعترف بأنني لم أشهد ولادة مرض بدأ من الصفر في لحظة فريدة -تشبه لحظة الانفجار الكبير- متحديًا جميع علومنا ومعارفنا بصلافةٍ مثل "كورونا".
فمعظم الأمراض، التي عرفتها أو درستها شائخة، وُلِدت منذ مئات أو آلاف السنين مع الإنسان العاقل، وكبرت، ونضجت، وهرمت، واستحوذت، وتقهقرت، ثم أعادت نفسها في دورات وأشكال مختلفة، ثم غدت سطورًا في كتاب يقرؤه ملايين من الأطباء، ويستطيعون القضاء عليها وهم يرتشفون القهوة؛ فالكوليرا تُعالَج بمحلول مُغذٍّ، والطاعون يُعالَج بأقراص مضاد حيوي، أما فيروس كورونا "المستجد" فلم نجده في سطور ذلك الكتاب.
ومَن يصدق أن السياحة والسفر تحولا من مصدر سعادة ورفاهية لنا إلى مصدر معاناة وفقدان لأحبائنا، وأن تجمعاتنا التي نتباهى بها باتت مصدر قوة أعدائنا؟
ومَن يصدق أن تنظيم "داعش" سيطلب عقد هدنة في سوريا، وأن عصابات ريو دي جانيرو البرازيلية ستتعاون مع مؤسسات المجتمع على مساعدة المرضى والمسنين الذين تضرروا من مرض "كوفيد-19"؟
وقد أحدثت جائحة "كورونا" ثلاث مشكلات كبرى تَمثّلت في: كارثة صحية، وانهيار اقتصادي، وأزمات نفسية، وذكر هنري كيسنجر أنها ستغير النظام العالمي إلى الأبد، وكتب توماس فريدمان قائلًا إنها ستكون بداية تقويم جديد للعالم، وخطًّا فاصلًا بين حقبتي "ما قبل كورونا" و"ما بعد كورونا".
ونتذكر المراحل الخمس الشهيرة لكيفية استجابتنا لخبر إصابتنا بمرض قاتل: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول، وهي مراحل لا تحدُث بالترتيب نفسه، ولا تحصل كلها عند جميع مَن يتعرضون لصدمات نفسية.
وفي جائحة كورونا بدأنا بالإنكار "لا يوجد سبب للقلق"، ثم الغضب "الصين هي سبب معاناتنا"، فالمساومة "عدد الوفيات في تصاعد لكنه لا يزال أقل من عدد وفيات سارس، وبإمكاننا احتواء الأضرار، وإنها مجرد إنفلونزا"، ثم الاكتئاب "لقد أصابتنا لعنة كورونا"، وهل صرنا في مرحلة القبول والتصالح مع "طبقة فرعية وحقيرة" من الميكروبات كما يصفها البروفيسور السلوفيني سلافوي جيجك؟
وكتب هيجل: إن الشيء الوحيد الذي يمكن تعلمه من التاريخ هو أنه لا يمكن تعلم أي شيء منه، وهذا ما دفع جيجك إلى القول إن هذه الجائحة لن تجعلنا أكثر حكمةً، وقد تحطم كثيرًا من الأسس والقواعد التي بُنيت عليها حياتنا، مسببةً معاناة بشرية وخرابًا اقتصاديًّا أكبر من الذي شهدناه إبَّان الأزمة المالية في عام 2008.
وقد حذّرنا العلماء من ظهور وباء جديد في المستقبل القريب، فلم نأخذ تحذيراتهم على محمل الجِد برغم ثقتنا بهم، بل كل ما فعلناه هو استخدام التحذيرات بصفتها مادةً مشوقةً لإنتاج أفلام نهاية العالم مثل فيلم "Contagion".
وفي كل جائحة أو وباء نتّبع أنماطًا سلوكية معينة، ونكرر أخطاء الماضي الذي كنا نقرأ عنه كل هذه السنين، ويؤثر في قراراتنا السياسية، وفي الاقتصاد والهوى والأنانية وأزمة الأخلاق، فكل أزمة قد تتحول إلى استثمار ومضاربة وحرب إعلامية واتهامات متبادلة، ويمتزج الطب بالسحر، والحقيقة بالوهم، والعلم بالأسطورة، وقد يعلو الصوت الأكثر سذاجة فقط لأنه أكثر ضوضائية، والقيادة الرشيدة، وخط الدفاع الأول -مَن يعملون في قطاعات الصحة والتعليم والتقنية والأمن والعمل التطوعي- في مواجهة مفتوحة، فئة تحاصر الوباء، وفئة تعالجه، وفئة تمنعه، وفئة ترسم مستقبلًا لا تتكرر فيه أخطاء هذه المحنة.
نقلا عن "مفكرو الإمارات"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة