تاريخ الأوبئة واقتصاد كورونا.. تمرد الشعوب أقوى من الفيروس
عدد وفيات فيروس كورونا المستجد حاليا الذي وصل إلى مليون وفاة ضئيل للغاية لدى مقارنته بوفيات جائحة الأنفلونزا الإسبانية في عام 2018
تاريخ الأوبئة مليء بالأمثلة على تمرد الناس على قرارات السلطات الصحية الصارمة للحد من انتشار الوباء. حدث هذا عندما تمرد سكان مدينة مرسيليا الفرنسية على الحجر الصحي ضد الطاعون في القرن التاسع عشر، ورفضوا ارتداء الأقنعة الواقية أثناء جائحة الأنفلونزا الإسبانية في عام 1918، وكانت النتيجة المروعة موجة جديدة من العدوى المميتة.
قد يكون عدد وفيات جائحة فيروس كورونا المستجد حاليا الذي وصل إلى مليون وفاة ضئيلا للغاية لدى مقارنته بوفيات جائحة الأنفلونزا الإسبانية في عام 2018، التي وصلت إلى 50 مليونا، لكن دورة المخاطر تتجدد. ففرنسا وإسبانيا وبريطانيا تواجه حاليا تهديدا ثلاثيا، حيث إن أعداد المصابين بفيروس كورونا المستجد تقفز باطراد، وضاقت الناس من الركود الاقتصادي الناجم عن إجراءات الإغلاق، وهناك رفض متزايد للإجراءات المشددة في الحد من انتشار الفيروس.
تمرد مرسيليا.. المفاتيح على الأرض
وشهدت مدينة مرسيليا مظاهرة لأصحاب الحانات والمطاعم ألقوا خلالها بمفاتيح هذه الأماكن على الأرض بسبب حظر التجوال وإغلاق المطاعم والحانات لمنع انتشار الفيروس. وفي مدريد، يرى المحتجون أن الإغلاق المحلي لبعض المدن والمناطق ينطوي على تمييز غير قانوني. ولا يقتصر الغضب الممتد من شوارع لندن إلى برلين على من يؤمنون بنظرية المؤامرة بالنسبة لقرارات الإغلاق لمواجهة كورونا، بحسب المحلل ليونيل لوران المتخصص في الشؤون الأوروبية.
ويقول ليونيل لوران إنه لا يجب النظر إلى هذه الاحتجاجات باعتبارها استثناءات أنانية للقاعدة. فبعيدا عن الأقلية المحتجة عالية الصوت، هناك مؤشرات على أن الأغلبية الصامتة تفقد ثقتها في الهياكل البيروقراطية. ويحتاج صناع السياسة في العالم الآن إلى استعادة الثقة العامة.
ورغم أن الالتزام بارتداء الكمامات، وبالنظافة الشخصية، لا يزال واسع النطاق، بحسب الاستطلاع الذي أجرته مؤسسة "يو جوف" في الدول الأوروبية، فإن تأييد الحجر الصحي والعزل الذاتي يتراجع. وقال 48 في المئة فقط في فرنسا إنهم يؤيدون العزل الصحي للمخالطين لمرضى كورونا، مقابل 78 في المئة كانوا يؤيدون العزل في آذار/مارس الماضي. كما تراجعت نسبة التأييد في بريطانيا وإسبانيا، ولكن بدرجة أقل.
القدرة على البقاء في المنزل
وهناك أدلة متزايدة على أن الأشخاص الذين يطلب منهم البقاء في المنزل لا يفعلون ذلك. وبحسب دراسة أخرى لكلية كينجز كولديج لندن، والتي شملت أكثر من 30 ألف شخص خلال الفترة من آذار/مارس إلى آب/أغسطس الماضيين، كان 2ر18 في المئة فقط يبقون في منازلهم بعد ظهور أعراض الإصابة بفيروس كورونا المستجد، و10.9% فقط ممن يتلقون تحذيرات من خلال القائمين بتتبع وسائل الاتصال.
ويرى ليونيل لوران في تحليله بوكالة بلومبرج للأنباء أن هذا التطور مثير للقلق في ضوء الأهمية الحيوية للعزل الذاتي في كسر دائرة انتقال الفيروس قبل وصوله إلى الفئات الأشد عرضة للمخاطر، ولكبار السن.
وبالنسبة لهؤلاء الذين لا يملكون رفاهية أداء أعمالهم من المنزل، فإن العزل الذاتي يعني أيضا حرمانهم من أجر جيد كانوا يحصلون عليه من وظيفتهم. وقال ما بين 10 و11 % ممن شملهم المسح أن "الخروج إلى العمل" من أسباب عدم الالتزام بقاعدة البقاء في المنزل.
هذه النتيجة تؤيد نتيجة توصلت إليها دراسة سابقة أشارت إلى أن نصف البريطانيين من العمال ذوي الدخل المنخفض لا يستطيعون تحمل العزل الذاتي لآن الأجر أثناء فترة الإجازة المرضية الإجبارية منخفض جدا، بحسب اتحاد النقابات العمالية.
أجور العمال.. أزمة كبيرة
ولكن الأمر ليس كذلك في جميع الدول. ففي النمسا، يحصل العمال الذين يخضعون للعزل الصحي على أجرهم الكامل، وبالتالي فنسبة الالتزام بأوامر العزل هناك تبلغ أكثر من 98 % ، بحسب صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية. وفي حين تتجه الأنظار بشدة نحو أساليب الإغلاق في الدول الأوروبية، فإن الاهتمام أقل نسبيا بأنظمة الضمان الاجتماعي لديها.
وفي حين تدعو منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الدول إلى التوسع في منح العمال أجازة مرضية، مع احتفاظهم بكامل مزاياهم، وبخاصة أصحاب الأعمال الخاصة عند الحاجة إلى خضوعهم للعزل المنزلي، يتعين على أوروبا أن تفعل ذلك أيضا.
والحقيقة أنه يجب أن تترافق مكافأة الملتزمين بقرارات العزل الذاتي، مع عقاب المخالفين لهذه القرارات، لكن ذلك يحتاج إلى ثقة الناس في القواعد المطبقة وفي المسؤولين عن تطبيقها وهي الثقة المفقودة حاليا.
وأخيرا يمكن القول إن التمرد على قواعد مكافحة فيروس كورونا المستجد أعمق مما نظن، وعلى المسؤولين الذين يتخذون قرار فرض إجراءات الإغلاق، أو رفعها، أن يبذلوا المزيد من الجهد للحد من التمرد عليها.