لو لم تهزم ألمانيا النازية لأصبح لأوروبا تاريخ آخر غير ذاك الذي تعلمناه ونحن نقرأ أحداث الحرب العالمية الثانية
أيكفي المؤرخ أن يحكي لنا ما حدث فرحاً بأنه أنجز المهمة التي يرى أنه نذر نفسه لها: حكاية ما حدث. هناك نفر ممن يمتهنون كتابة التاريخ يرون أن تلك هي مهمتهم فعلاً. إن فعلوا أكثر من ذلك فإن كتابة التاريخ تصبح، وفق فهمهم، غائية، موجهة، تلوي عنق الوقائع لكي تمرر فهماً معيناً للتاريخ. وسيكون مبتذلاً هنا تكرار الفكرة/الحقيقة حول أن التاريخ كتبه المنتصرون لفرط بداهة هذا القول.
كان بوسع التاريخ أن يكون شيئاً آخر، لو أن المنتصرين كانوا آخرين. لو أنّ من انهزم هو الذي انتصر.
لو لم تهزم ألمانيا النازية لأصبح لأوروبا تاريخ آخر غير ذاك الذي تعلمناه ونحن نقرأ أحداث الحرب العالمية الثانية. لو أن القياصرة قضوا على ثورة البلاشفة مطالع القرن الماضي لكانت روسيا ستكتب لنفسها تاريخاً آخر.
التاريخ هو السببية. هو بحث في الأسباب التي أدت إلى ما أدت إليه. ما من حدث فاصل في التاريخ سببه واحد. تتضافر الأسباب وتتداخل وتتجمع في بؤرة واحدة تنفجر عما يليها من أحداث.
المؤرخ الذي يزعم أنه يكتفي بحكاية ما حدث يغفل حقيقة مهمة أخرى، هي أنه نفسه لم يكن هناك. لم يكن موجوداً لحظة وقوع ما يرويه لنا، إنه على ما قال أحدهم مثل شرطي المرور أتى بعد وقوع الحادث المروري ليدوّن محضراً يُحدّد من الذي تسبب بالحادث، وساعتها فإن تقييم الشرطي هو الذي سيحدد، بناء على الروايات المتناقضة للشهود، من هو المخطئ، أي أنه سيغلّب رواية على أخرى.
من يضمن أن الشرطي كان دقيقاً في خلاصته؟ المؤرخ مثله. هو لا يحكي ما حدث لأنه، بكل بساطة، لم يكن هناك. هو سيستعين بما كتبه أو نقله آخرون، وهو إذ يفعل ذلك يُغلّب هوى على هوى، رأياً على رأي، فمن يضمن لنا أنه نقل ما حدث فعلاً، لا ما راق له هو، أو ما ناسب هواه؟ التاريخ هو السببية. هو بحث في الأسباب التي أدّت إلى ما أدّت إليه. ما من حدث فاصل في التاريخ سببه واحد. تتضافر الأسباب، وتتداخل، وتتجمع في بؤرة واحدة، تنفجر عما يليها من أحداث.
إدوارد كار في كتابه «ما هو التاريخ؟» وقف عند هذا بالكثير من التأني. في رأيه أن السؤال الذي يشغل ذهن المؤرخ، أو يجب أن يشغله هو: لماذا؟ الحرب العالمية نشأت لأن هتلر أراد ذلك، هذا صحيح جزئياً فقط. يجب البحث في الأسباب كافة التي أدّت إليها، لا الاكتفاء برغبة هتلر.
هذه خلاصة تهمّنا في لحظتنا العربية الراهنة لكي نفتش في كل أسباب ما نعيشه اليوم، لا أن نكتفي بسبب.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة