كيف يترصّدك الرادار.. حين يُخادع الطائر الحديدي عيون السماء

في عام 1940/كانون الثاني، وبينما كانت بريطانيا تترقب من السماء وابل القصف الألماني، جاء الرد على هيئة اختراع تقني سيُبدل مستقبل الحروب.
كيف يرى الرادار؟
الرادار هو جهاز استشعار كهرومغناطيسي بقدرة على تتبع وتحديد مواقع الأجسام عن بعد، سواء كانت طائرات، سفن، مركبات فضائية، أو أسراب طيور. يرسل الجهاز نبضات قصيرة من الطاقة على هيئة موجات راديوية، ثم يتحول الهوائي إلى وضع الاستقبال، منتظرًا رجع الصدى حين ترتد الموجات عن جسم عابر.
ما يعود من تلك الموجات يُحلل بدقة ليُستخرج ما يُعرف بـ"المقطع العرضي الراداري"، وهي صورة رقمية تُبيّن مدى قدرة الجسم على عكس الإشارة. الزمن الذي تستغرقه الإشارة ذهابًا وعودة يكشف بدقة المسافة، بينما تسمح أنظمة متقدمة مثل "دوبلر" بقياس السرعة عبر تغيّر التردد المرتد عن الهدف المتحرك.
لكن، ماذا لو توقّف الجسم الطائر عن ترك أي أثر على الشاشة؟
كيف يصبح الفولاذ شبحًا
عام 1944/كانون الأول، جاء الرد الألماني على الرادار الإنجليزي: طائرة "Horten HO 229"، أول طائرة شبح عرفها التاريخ، بمحركات نفاثة وتصميم غير تقليدي يُفلت من أنياب الرادار. فكرة الشبح الجوي لم تُدفن بانتهاء الحرب، فقد حصل الحلفاء على المخططات وبنوا عليها جيلًا جديدًا من الطائرات الخفية، أبرزها قاذفة القنابل الأمريكية B-2.
تعتمد طائرات الشبح على طريقتين رئيسيتين: تشتيت موجات الراديو بعيدًا عن مستقبل الرادار، أو امتصاصها وتحويلها إلى حرارة. وقد صُمّمت طائرة B-2 بحيث تعكس الموجات الرادارية بزاويا لا تعود إلى المرسل، مما يجعلها كأنها غير موجودة على شاشة الرادار. هذا الشكل لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة عمليات حسابية معقدة نفذتها حواسيب عملاقة لتحديد أقل تصميم يُمكن أن يُكتشف.
جسم الطائرة مصنوع من مواد تركيبية متقدمة: بلاستيك مقوّى بألياف الكربون، وطلاء خارجي يحتوي على جزيئات من الحديد، قادرة على امتصاص الطاقة وتحويلها إلى حرارة غير قابلة للرصد. أما المحركات، فهي مدمجة داخل الجسم نفسه، لمنع رصد الحرارة المنبعثة منها.
بهذه التقنية، لا يظهر على شاشات الرادار إلا نقطة صغيرة لا تختلف كثيرًا عن عصفور طائش، رغم أن الحجم الحقيقي قاذفة قتالية عملاقة.
هندسة تخفي المسيرات
عندما تنطلق طائرة مسيّرة في مهمة استطلاع أو ضربة دقيقة، فإن أول ما تسعى لتجنبه هو الكشف الراداري. هنا تبدأ القصة من هيكل الطائرة نفسه.
التصميم الشبحي هو حجر الأساس في أي مسيّرة تسعى للتخفي. تُصمَّم الزوايا في الطائرة بحيث تُشتت موجات الرادار بدلاً من عكسها، بينما تُعتمد الأسطح الملساء لتقليل البقع العاكسة التي قد تفضح مكانها. تُصنَع الهياكل من مواد مركبة مثل ألياف الكربون والبلاستيك المقوّى بالألياف، ما يجمع بين خفة الوزن وقدرة عالية على امتصاص الإشارات الرادارية.
كما تُغلف هذه الأجسام بطلاءات خاصة تحتوي على مواد كيميائية قادرة على امتصاص موجات الرادار، لتتحول البصمة الرادارية إلى مجرد صدى باهت لا يكفي لرصد دقيق.
الجلد الأسود.. حيلة الامتصاص البارد
تُعرف المواد الماصة للرادار (RAM) بقدرتها على ابتلاع الموجات الكهرومغناطيسية، وتحويل طاقتها إلى حرارة بدلاً من عكسها. تُصنع هذه المواد باستخدام الجزيئات المغناطيسية والبوليمرات المتطورة، وتُطبق كطبقات رقيقة أو صفائح مركبة أو حتى أقمشة ناعمة قابلة للطي تُغلف بها أجزاء محددة من الطائرة مثل مداخل الهواء أو أسطح التحكم.
وفي السنوات الأخيرة، دخلت المواد النانوية والذكية على الخط، وهي قادرة على تغيير خصائصها حسب الظروف المحيطة، ما يُعقّد مهمة الرادارات الحديثة أكثر فأكثر.
الارتفاعات المنخفضة.. الحيلة الكلاسيكية
حين تُحلّق المسيّرة على ارتفاعات منخفضة، تستفيد من خصائص فيزيائية تجعل موجات الرادار ترتد من التضاريس بدلاً من التقاط الطائرة. الرادارات المصممة لكشف أهداف مرتفعة تصبح عاجزة عن تتبّع الطائرات المنخفضة، مما يفتح لها الطريق للاقتراب من الأهداف دون إنذار مبكر.
التشويش الإلكتروني: الصمت المزعج
في أجواء الحرب الإلكترونية، يمكن للمسيّرات أن تُربك الرادارات تماماً عبر إرسال إشارات مزيّفة على التردد نفسه. هذه الإشارات تملأ شاشة الرادار بضوضاء يصعب معها التمييز بين الهدف الحقيقي والوهمي.
تشمل تقنيات التشويش أنواعاً متعددة مثل التشويش الضوضائي، الذي يغرق ترددات الرادار بإشارات عشوائية، والتشويش المتزامن الذي يحاكي توقيت الموجات الأصلية بدقة، والتشويش الترددي الذي يُربك حتى الأنظمة التي تستخدم تبديل الترددات.
التوقيع الحراري: البصمة الخفية الأخرى
حتى لو نجت المسيّرة من الرادارات الكهرومغناطيسية، تبقى التهديدات الحرارية قائمة. ولهذا، فإن تقليل الانبعاث الحراري يُعد أولوية قصوى.
تُستخدم عوازل حرارية مثل السيراميك والألياف الزجاجية لعزل المحركات والمكونات الساخنة. أما الطلاءات الخاصة فتمتص أو تعكس الحرارة، وتُسهم في توزيعها بشكل متساوٍ حتى لا تخلق "نقطة ساخنة" تُكتشف عبر الرادارات الحرارية.
في موازاة ذلك، يتم تطوير تصاميم محركات خاصة تقلل من الاحتكاك والحرارة، وتُزوّد الطائرات بأنظمة تبريد تعمل بالسائل أو الهواء تمر عبر أنابيب دقيقة داخل الجسم لامتصاص الحرارة وتبديدها بهدوء.
كيف يترصّد الرادار سيارتك ؟
في عالم سرعة السيارات والمسافات الطويلة، لم تعد عيون الشرطة تحتاج إلى المطاردة لتُمسكك متلبسًا. يكفي ضغطة زر، وشعاع خفي من موجات الرادار لينكشف كل شيء. فالرادار، بحسابه الدقيق لتغيّر الترددات، يستطيع أن يلتقط سرعتك حتى لو كنت خلف شاحنة أو على طريق مزدحم. بعضه يُستخدم من سيارات متوقفة، وبعضه يتجول مع الدوريات، يرصد السيارات القادمة والمغادرة، بل وحتى تلك التي تسير أمامه في نفس المسار، بفضل تقنيات حديثة مثل “أسرع هدف” و“نفس المسار”. وإن ظننت أن يدك على كاشف الرادار كفيلة بطمأنتك، ففكّر مرتين: بعض الضباط يُفعّلون الرادار فقط لحظة اقترابك – لا وقت للتحذير.
ذكاء مضاد: الكاشف يترصّد الرادار
لكن الذكاء لا يقتصر على الطرف الآخر. أجهزة كشف الرادار المتطورة اليوم، مثل Escort Redline 360c، تُشبه رادارًا مضادًا؛ تُميّز بين إشارات الشرطة وعبث أجهزة مراقبة النقطة العمياء في السيارات، وتتجاهل إشارات المتاجر، وتمنحك تحذيرًا قبل نصف ميل أحيانًا. تُحدّث نفسها عبر الواي فاي وتُشير لك بالسهم نحو مصدر التهديد، دون أن تتمكن الشرطة من رصدها. صحيح أن الرادار المصوّر المخفي في سيارات متوقفة يبقى الأخطر والأصعب كشفًا، لكنه نادر، والأغلب أنك ستعرف بوجود الرادار قبل أن يعرف بك.
لوحة ذكية تُربك الكاميرا
وفي محاولة للتملص من كاميرات المراقبة المرورية، لجأ البعض أيضا إلى تطوير تقنية خفية تُربك عدسات التصوير وتعطل قدرتها على التقاط أرقام لوحات السيارات.
يعتمد الجهاز على خداع نظام التصوير لدى كاميرات السرعة، عبر استغلال الفلاش المستخدم في الكاميرا نفسها. إذ صُمم الإطار ليُركّب حول لوحة السيارة، ويتضمن حساسًا ضوئيًا يلتقط ضوء الفلاش عند صدوره من كاميرا المراقبة، ثم يُطلق فورًا ومضات ضوء قوية باتجاه اللوحة، لتنعكس بدورها على سطحها العاكس، ما يؤدي إلى تشويش الصورة الملتقطة ويجعل من الصعب قراءة الأرقام بوضوح.
الصورة التي تظهر من خلال الكاميرا بعد تطبيق هذه التقنية، لا تُظهر شيئًا سوى انعكاس ساطع يُغطي تفاصيل اللوحة. وهو ما يجعل من تتبع المركبة ومعرفة بياناتها أمراً بالغ الصعوبة، وربما مستحيلاً في بعض الحالات.
التقنية أثارت موجة من التساؤلات بين المتابعين بشأن قانونيتها في بعض الدول، لكن ذلك لم يحد من فضول المستخدمين حيالها، لا سيما مع ما توفره من قدرة على الإفلات من المخالفات المترتبة على تجاوز السرعة.
المعركة لا تزال مفتوحة
رادارات الطقس، والرادارات البحرية، ورادارات تتبع هجرة الطيور والحيوانات، لكن التحدي الحقيقي يبقى في كشف ما لا يُكشف، وتتبع من يُخفي نفسه عن الأنظمة التقليدية.
وبينما تتطور طائرات الشبح ومحاولات المسيرات لللآفلات من ترصد السماء ، تزداد أجهزة الرادار تطورًا أيضًا، لتدخل اللعبة مرحلة أكثر تعقيدًا، حيث لا يكفي أن تكون السماء صافية لتعرف ما يمر فوقها.
السماء إذًا، لم تعد مجالًا مفتوحًا كما كانت في الحروب القديمة... بل ساحة لصراع صامت بين عين ترقب، وظلّ يهرب.