"أنا دانيل بلايك".. البؤس والفقر في قلب الثراء
في ظل ندرة فرص العمل وانتشار البطالة في الكثير من المجتمعات الصناعية المتقدمة، تبرز مشاكل البؤس والعوز والفقر.
في ظل ندرة فرص العمل وانتشار البطالة في الكثير من المجتمعات الصناعية المتقدمة، تبرز مشاكل البؤس والعوز والفقر، لأفراد ومواطنين أعضاء في مجتمعات متقدمة اقتصاديا تنتمي للعالم الأول.
لكن الثراء الحالي للعالم المتقدم يتضمن في داخله قدرا كبيرا من البؤس والشقاء يعاني منه فصيل كبير من مواطني تلك الدول التي من المفترض أنها ثرية.
وزاد من صعوبة الأمر العقيدة الاقتصادية المسيطرة على الكثير من تلك الدول، والمعروفة باسم "الليبرالية الاقتصادية"، والتي تعتبر أن أكبر إنجاز يمكن أن يقدم لأفرادها ومواطنيها يكمن في منح المزيد من الإعفاءات الضريبية للمستثمرين داخل اقتصادها لتشجيعهم على المزيد من الاستثمارات، ومن ثم خلق المزيد من فرص العمل.
ولكن هذا أدي إلي انخفاض الإيرادات الواردة لميزانيات تلك الدول، ومن ثم انخفاض النفقات الحكومية، لتكون النفقات الاجتماعية هي أكثر النفقات التي يتم التضحية بها، ويرتفع عدد الضحايا من المستفيدين من إعانات البطالة، أو هؤلاء الذين لا تسمح لهم ظروفهم الصحية بالاستمرار في أداء نفس الأعمال التي كان يمارسونها من قبل، وكذلك الأمهات المعيلات.
وزاد الأمور تعقيدا، وجود العولمة الاقتصادية، التي سمحت لأرباب الأعمال بالتوجه للبلدان الصاعدة اقتصاديا من دول العالم الثالث (الصين، الهند، بنجلاديش...) لممارسة نشاطهم، بحثا عن عمالة منخفضة الأجور، والتي لن يعوض الربح القادم من استغلالها أي تخفيض في الضرائب مقدم لهم في الدول الأم، فأرباح العبودية الجديدة تفوق أي تخفيضات ضرائبية.
هذا الموضوع الجدير بمقال سياسي أو ببحث اقتصادي اجتماعي، هو موضوع فيلم المخرج البريطاني "كين لوتش" (أنا دانيل بلايك)، والحائز على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان في دورته السابقة.
تتميز سينما كين لوتش بأنها مرآة عاكسة لمشاكل الواقع الاجتماعي والسياسي للعديد من المشاكل في بريطانيا والعالم منذ فيلمه الأول (البقرة المسكينة 1967)، وفيلمه الثاني (كيس 1969)، حيث صب اهتمامه على المشاكل الاجتماعية والأسرية للطبقات العاملة ولمهمشين المجتمع الإنجليزي.
حاز كين لوتش مع هذا الفيلم على سعفة كان الثانية في تاريخه لينضم لنادي الحائزين على السعفة مرتين في تاريخهم، مع الأمريكي فرانسيس فورد كوبلا، والياباني شوهي إيمامورا، والبوسني أمير كوستاريكا.
يدخلنا الفيلم في موضوعه قبل حتى أن يبدأ مع شريط الصوت الذي يعمل مع الخلفية السوداء التي تنزل عليها أسماء المشاركين في العمل دون صورة.
الصوت يعلمنا أن هناك مقابلة بين شخص وموظفة بيروقراطية تسأله عدة أسئلة عن صحته، وهو يحاول أن يخبرها أنه لا يواجه أي مشاكل مع الأعراض التي تسأل عنها، وأن مشكلته مع قلبه، الذي يعاني من مشاكل خطيرة، وأن الأطباء المعالجين له قد طلبوا منه ألا يعمل بعد اليوم، لما في ذلك من تهديد على حياته، ولكنها تأبي أن تستمع له، وتخبره أنه مؤهل للعمل، ولن يمنح إعانة المتوقفين عن العمل لأسباب صحية.
هذا الشخص هو دانيل بلايك بطل فيلمنا الذي سيصحبنا طوال الفيلم من خلال مشكلته للبحث عن إعانة الدولة من المخصصة لذوي الإعاقة أو المرض غير القادرين على العمل، ولكن البيروقراطية تأبي أن تمنحه هذا الحق، وتطالبه بالبحث عن عمل لضمان الحصول على إعانة البطالة عن العمل، وإلا ستقطع عنه إعانة البطالة.
لغز غريب ودهاليز بيروقراطية يحاول التحايل عليها من أجل أي دخل يضمن له الحياة، فهو لم يبلغ سن المعاش بعد ولا يحق له معاشا، ولكنه يفشل ويبيع منقولات وأثاث منزله من أجل الحصول على أي دخل يدفع به ثمن الكهرباء اللازمة للتدفئة في البرد القارس، وبالرغم من مرضه وعجزه يقبع في النهاية في صقيع الشتاء بلا تدفئة.. لم يرسم كين لوتش من خلال هذا الفيلم بورتريه لبؤس بطلنا فقط، بل أضاف تفاصيل وخلفيات مكملة لعالم المهمشين والمتساقطين من عجلة العولمة والخصخصة وسياسات التقشف، اللذين يتم طحنهم كل يوم تحت تروس مجتمع الليبرالية الجديد.
العنصر الجديد من عناصر لوحة /فيلم كين لوتش تكتمل مع تعرف دانيل بليك على كيت مورجان، أم معيلة ترعي طفلين من زواجين فاشلين انتهيا بالطلاق واختفاء الآباء، تجبر كيت مورجان على هجرة لندن والعيش على بعد 450 كيلو متر من مسقط رأسها، لتستلم منزل أعطته لها الرعاية الاجتماعية، وإلا عليها أن تعيش في ملجأ داخل غرفة ضيقة مع أولادها من بعد طردها من منزلها، مهددة بنزع رعاية أولادها منها.
المنزل الجديد متهالك وبلا كهرباء لعدم قدرتها على دفع فواتير الكهرباء، لكن دانيل يجد فيها هي وأولادها سلوته الوحيدة في الحياة: فهو يقدم مساعدتهم، بخبرته كعامل نجارة سابق، ويجالس الأطفال حين تخرج أمهم للبحث عن عمل، ولكنها لا تجد عملا دائما وتضطر للسرقة من السوبر ماركت، أو الذهاب إلى بنك الطعام الذي يساعد الجائعين والمتعطلين عن العمل.
وفي مشهد مأساوي تتماسك قبل أن يغشى عليها من الجوع، وتفتح أحد علب الخضار المحفوظ التي تحصل عليها من بنك الطعام، باردة دون طهي، محاولة أكل أي شيء قبل أن تفقد وعيها. وينتهي الأمر بها للعمل في الدعارة من أجل الحصول على أي دخل.
بالطبع نحن أمام عناصر ميلودرامية قد تقلل من قيمة الفيلم، لكن السيناريو المحكم الذي جعل السرد شديد السلاسة دون مبالغة، استطاع أن ينقل إلينا الوقائع بشكل صادق، ولم يجعلنا ننفصل عن الأحداث للحظة. كتب السيناريو (بول لافيرتي) كاتب سيناريو كين لوتش المفضل، فهو صاحب العديد من أفلام كين لوتش، بما فيها (الريح تهز حقول الشعير 2006)، الذي نال عنه لوتش سعفته الأولى من مهرجان كان. قدم بول لافيرتي مع هذا الفيلم مزيجا دراميا متدفقا بلا أي افتعال أو تغليب للسياسة عن الدراما، مع دراسة شديدة الدقة لتفاصيل الموضوع، عبر دراية بدهاليز أروقة البيروقراطية الإنجليزية، المثبطة لهمم الراغبين في الاستفادة من المساعدات الاجتماعية بغرض استبعادهم منها.
وحتى عندما أراد لوتش بث رسائل سياسية مباشرة، خلق له مواقف درامية وشخصيات ينقل من خلالها رسائله السياسية، حتى لا يعلنها عبر الحوار بشكل دخيل ومجحف للبناء الدرامي.
فهو من خلال شخصية الجار الشاب من أصول أفريقية (يطلق عليه دانيل بلايك لقب "تشينا"، أي الصين) لمس الفيلم قضية العولمة، التي تجعل نفس السلعة المنتجة في الصين تباع بضعف ثمنها في إنجلترا، بالرغم من أنها مصنوعة في نفس المصنع في الصين، وبنفس العلامة التجارية العالمية، وذلك من خلال تهريب الشاب لأحذية رياضية آتية من الصين، ليبيعها على الرصيف في إنجلترا بنصف ثمنها.
وعندما بلغ مركز الضمان والمساعدة الاجتماعية دانيل بلايك بأنه لن يتسلم أي إعانة، خرج ليكتب اعتراضه على جدران المركز بالطلاء، وهنا ظهرت شخصية متشرد في الشارع أخذ يصفق له معلنا أنه بطل، وجعله السيناريو يلقي الخطاب السياسي الوحيد في الفيلم عن سياسات الخصخصة لحزب المحافظين، وبيع كل ممتلكات الدولة للقطاع الخاص، وإلقاء العمال في الشارع، والتخلي عن السياسات الاجتماعية.
وعندما وصلت قوات الشرطة للقبض على دانيل بلايك وطلب من المتشرد الابتعاد، صرخ فيهم: "أنتم لا تعلمون. فقد تفقدوا وظائفكم أنتم أيضا غدا"، وبالتالي جعل الخطاب السياسي يأتي على لسان متشرد في الشارع، يسمح له وضعه أن يقول أي خطاب قد يصفه البعض بالحمق، حتى لو كان هو التعبير الصحيح عن حقيقة الأمور، لكن هذا الحطاب يتردد منذ زمن دون أي رد فعل سياسي من الجمهور، فأصبح مرددوه حمقى من وجهة نظر كثيرين.
والمرة الوحيدة التي جعل الفيلم يقول خطابا مباشرا على لسان "دانيل بلايك" كان بعد موته، عن طريق رسالة وجدت في جيبه بعد موته بأزمة قلبية، قبل أن يقابل لجنة التظلمات التي كان سيستأنف أمامها الحكم بعدم أحقيتها في مساعدة مالية لعدم قدرته على العمل، فجاءت كلمته بعد موته إنسانية يعلن فيها أنه مجرد مواطن يبحث عن حقوقه، وأن رفض حقوقه هو شروع في القتل من قبل الحكومة، لكن الشروع تحول إلي فعل مع الإصرار والترصد، فقد مات دانيل بلايك، ولكن ليس بسبب مرض قلبه، ولكنه مات كمدا من ظلم نظام لا يري ضحاياه.