الإخوان والتنظيم السري في جريمة قتل فرج فودة.. "الجزيرة" تواجه "الاختيار"
الشيخ الدكتور أحمد كريمة والدكتورة آمنة نصير والدكتور عمار علي حسن يعقبون على تكفير فرج فودة وقتله وموقف الإخوان
أعاد المسلسل المصري "الاختيار" وقناة "الجزيرة" القطرية التذكير بجريمة اغتيال المفكر المصري الراحل فرج فودة، بعد تحريض مباشر على قتله من جانب تنظيم الإخوان الإرهابي وحلفائه.
وقام مسلسل "الاختيار" بالتذكير بالواقعة من خلال تسليط الضوء على جرائم الإرهاب وتضحيات الشرطة المصرية من جهة، ومن خلال واقعة تدعو للسخرية، بطلها أحد المشاركين في العمل، وهو الممثل أحمد الرافعي، الذي كتب منشورا في يونيو 2019، على موقع "فيس بوك": "إنها المرة الأولى التي يظهر فيها المصريون الفرح لموت إنسان.. من تعليق لأحد الكتاب في ذكرى نفوق فرج فودة".
وكان الكاتب المشار إليه هنا هو المفكر المصري علي سالم، الذي يشتهر أكثر بكونه مؤلف مسرحية "مدرسة المشاغبين" الشهيرة، التي لعب بطولتها نجوم الكوميديا المصريون: عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي وحسن مصطفى وسهير البابلي.
منشور "الرافعي" استفز "سمر" ابنة المفكر الراحل فرج فودة، وردت عليه: "حضرتك ماقلتش رأي مقابل رأي، فكر مقابل فكر، ساعتها كنت احترمتك، واحترم اختلافنا في الآراء والأيدولوجية، حضرتك اكتفيت بالسب والقذف كعهدنا بكم، واكتفيت بمشايخك اللي كذبوا وافتروا وظلموا وشهدوا زورا أمام المحاكم وبيانات التكفير ولما ما لقيوش رأي يردوا به ملأوا أيديهم بالدم".
وبعد مرور 28 عاما على وفاته، خرجت قناة "الجزيرة" القطرية لتعيد بث فيلم وثائقي عن "فرج فودة"، أخذت تبرر فيه اغتياله مرددة خطابات تنظيم الإخوان وحلفائها من أصحاب الفكر الإرهابي المتطرف.
ولد فرج فودة في محافظة دمياط المصرية عام 1945، حصل على ماجستير العلوم الزراعية ودكتوراه الفلسفة في الاقتصاد الزراعي من جامعة عين شمس.
شارك في تأسيس حزب الوفد الجديد، ثم استقال منه لرفضه تحالف الحزب مع جماعة الإخوان لخوض انتخابات مجلس الشعب المصري العام 1984.
أثارت كتاباته جدلا واسعا بين المثقفين والمفكرين ورجال الدين، فقد طالب بفصل الدين عن السياسة والدولة وليس عن المجتمع، لكن أبواق التطرف والإرهاب سارعت إلى تكفيره وإهدار دمه.
عاش فرج فودة حياته يناضل ويكتب ضد الفكر الإرهابي ودعوات القتل وصناعة الموت والاغتيالات، التي بدأت تظهر بقوة مع ازدياد عنف الجماعات الإرهابية المتدثرة برداء الإسلام كذبا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
ومع كل كتاب جديد له كان يواجه سيلا من الاتهامات إلى أن قرر عقد مناظرة مع أصحاب الفكر المتطرف والمنغلق على هامش فعاليات معرض القاهرة الدولي للكتاب في 8 يناير عام 1992.
كان عنوان الندوة "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية"، وكان فرج فودة من أنصار الدولة المدنية مع الدكتور محمد أحمد خلف الله، في مواجهة الجانب الآخر، الذي يضم المفكر الإسلامي الشيخ محمد الغزالي، ومأمون الهضيبي، مرشد جماعة الإخوان الإرهابية، وقتها، والكاتب الإسلامي الدكتور محمد عمارة.
في المناظرة التي حضرها نحو 30 ألف شخص، لم يتخل فرج فودة عما سطره في مؤلفاته على مدار أعوام طويلة، وتمسك بالدعوة إلى فصل الدين عن الدولة ونشر مبادئ التنوير ومجابهة الفكر بالفكر والرجوع إلى العقل والتدبر لإجهاض أية محاولات لتفتيت الوطن وقتل أحلام المساواة والمواطنة والوحدة.
بدأ المناظرة المفكر محمد الغزالي، مطالبا بتفعيل حدود الشريعة الإسلامية، خاصة القصاص والعودة إلى التراث السماوي والخلاص من أفكار الغرب التي جاءت مع الاستعمار، داعيا إلى حرب الثقافات الأخرى ليعود الإسلام كما كان سابقا، لتكوين حكومة إسلامية.
ولم يبتعد مرشد الإخوان "الهضيبي" كثيرا عن طريق "الغزالي"، إذ قال إن الامتثال للشريعة الإسلامية والحكم بما أنزل الله من أركان العقيدة، وأمرا واجبا يعد الخروج عنه كفرا وفسوقا، وأن الديمقراطية غير مرغوب فيها، والأهم مواجهة ما وصفه بـ"الغزو الثقافي والتربوي الذي يطالب بمدنية الدولة".
بدأ فريق الدولة المدنية، بالدكتور محمد خلف، الذى اهتم في بداية كلمته بإيضاح الفرق بين الدولة المدنية والدولة الدينية، وكيف أصبحت الأمم والشعوب قادرة على أن تكون مصدرا للسلطات.
وأوضح أنه بالرجوع للقرآن الكريم، نجد أن الله لم يصف نبيه الكريم ولو لمرة واحدة بأنه حاكم أو ملك، وإتمام الدين وفقا للمفاهيم القرآنية لا علاقة لها بإقامة الدول، فالأمر كله يدور حول رسالة سماوية دينية لهداية الناس، ولذا كانت سلطة النبي محددة بالدعوة إلى الإسلام ومكارم الأخلاق، وليس مسيطرا ولا مهيمنا، وما عليه إلا البلاغ.
وشدد على أن الدعوة إلى إقامة الخلافة لا علاقة لها بصحيح الدين، فالمسلمون هم من اختاروا الخليفة بعد وفاة الرسول، ولم يكن هناك تكليف إلهي بإقامة الخلافة، وهنا تكون من أمور الدنيا ومدنية الدولة.
بالعودة للتيار الإسلامي، هاجم محمد عمارة الدعوة إلى مدنية الدولة، واعتبرها علمانية أتت بها رياح الاستعمار الغربي لتخترق القانون المصري.
وذهب عمارة إلى تبرير عنف الجماعات الدينية وما يرتكبوه من إرهاب واغتيالات، واعتبر ذلك كله نتاجا لسياسات الدولة بحقهم ومنعهم من إبداء الرأي والتنظيم، وظهرت باعتبارها "أنياب وأظافر" للجماعة الإسلامية حينما وضعتها الدولة على المحرقة.، على حد تعبيره.
وجاء دور الدكتور فرج فودة، خلال المناظرة، ليتحدث عن الفارق بين الإسلام الدين "في أعلى عليين" والدولة التي تعد كيانا سياسيا اقتصاديا اجتماعيا تلزمه برامج تفصيلية تحدد أسلوب الحكم، مؤكدا أن من ينادون بدينية الدولة لا يهتمون إلا بالشعارات ويتجاهلون تقديم برامج سياسية تكون أساسا لنجاح الحكم.
في حجته الثانية، استند "فودة" إلى تصريح لـ"الغزالي" يقول فيه: "إن كانت الخلافة الإسلامية استمرت قرونا طويلا، لكن خلال أعوام طويلة شهدت خلافات لا آخر لها، وفقدت الصواب والرشد والشورى".
وعن التجارب الحقيقية لدول طبقت الشريعة الإسلامية بعد المناداة بالدولة الدينية، تساءل "فودة" مطالبا فريق التيار الإسلامي بالإشارة إلى الدولة النموذج أو التجربة الناجحة، مستندا إلى مقولة لـ"الغزالي" جاءت في إحدى المجلات: "الإسلاميون منشغلون بتغيير الحكم والوصول إلى السلطة دون أن يعدوا أنفسهم لذلك الأمر".
ودعا "فودة" المنادين بدينية الدولة إلى إعداد وتجهيز التجربة قبل المناداة بها، ولكن من خلال برامج واضحة ومحددة وبعيدة عن الأقوال العامة والشعارات، قائلا: "نزهوا الإسلام ووحدوا كلمتكم قبل أن تلقوا بخلافاتكم في وجوهنا.. وقولوا لنا متى سنرى برامجكم السياسية ".
وأضاف دليلا آخر على ضرورة التمسك بمدنية الدولة، لخصه في دعوات الإرهاب والقتل والسطو على المحلات العامة وتمزيق الوطن بالفتن، قائلا: "يحدث كل هذا ونحن على البر، فماذا يحدث للبلد بعد أن ندخل في الدولة الدينية؟! فإذا كانت هذه البدايات فبئس الخواتيم".
وفي النهاية، طلب "فودة" ردا واضحا من "الهضيبي" على عدة أمور: "قولوا لنا هل أفعال الصبية الذين يسيئون للإسلام بالعنف والإرهاب والقتل، وهو دين الرحمة، منكم أم لا؟ وهل التنظيم السري لجماعة الإخوان جزءا من فصائلكم أم لا؟ تدينونه أم لا؟".
وبهدوء شديد يرد الهضيبي مرشد جماعة الإخوان الإرهابية: "بخصوص الإرهاب وجهاز التنظيم السري، فنحن نفخر ونتقرب إلى الله بالتنظيم السري".
بعد المناظرة بنحو 5 أشهر، وتحديدا في في 3 يونيو 1992، نشرت جريدة "النور" الإسلامية، بيانا يكفر فرج فودة، ويدعو لجنة شؤون الأحزاب لعدم الموافقة على إنشاء حزبه "المستقبل".
وفي 8 يونيو 1992، انتظر شابان من الجماعة الإسلامية على دراجة بخارية أمام مكتب فرج فودة، في مصر الجديدة، وفي الساعة السادسة والنصف مساء، وعند خروجه بصحبة ابنه أحمد وصديق، متوجهين لركوب السيارة أطلق أحدهما الرصاص من رشاش آلي، فأصاب فرج فودة إصابات بالغة في الكبد والأمعاء، بينما أصاب صديقه وابنه إصابات طفيفة، وانطلقا هاربين، لكن سائق سيارة فرج فودة انطلق خلفهما وأصاب الدراجة البخارية وأسقطها قبل محاولة فرارها إلى شارع جانبي، وسقط أحدهما وارتطمت رأسه بالأرض وفقد وعيه، فحمله السائق وأمين شرطة كان متواجدا بالمكان إلى المستشفى، وألقت الشرطة القبض عليه.
بالتحقيق مع قاتل فرج فودة، أعلن أنه قتله بسبب فتوى عمر عبد الرحمن، مفتي الجماعة الإسلامية، بقتل المرتد في عام 1986، فلما سؤل من أي كتبه عرف أنه مرتد، أجاب بأنه لا يقرأ ولا يكتب.
عقدت المحكمة 34 جلسة استمعت فيها إلى أقوال 30 شاهدا، وتطوع للشهادة الشيخ محمد الغزالي، واستمرت شهادته لمدة نصف ساعة، وقال فيها: "إن فرج فودة بما قاله وفعله كان في حكم المرتد، والمرتد مهدور الدم، وولي الأمر هو المسؤول عن تطبيق الحد، وأن التهمة التي ينبغي أن يحاسب عليها الشباب الواقفون في القفص ليست هي القتل، وإنما الافتئات على السلطة في تطبيق الحد".
قال الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن المقرر في العمل الإسلامي الصحيح مجابهة الفكر بالفكر، لا بالسلاح والاغتيال والعنف والدماء، وأن مصادرة الآراء ليست من الإسلام الذى يحثنا على إعمال العقل والتدبر والتفكير.
وأضاف لـ"العين الإخبارية": "قال الله عز وجل في سورة سبأ (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)، والآية الكريمة تظهر منتهى الحيادية في تقبل الفكر الآخر وفتح المجال للعقل بعيدا عن احتكار الحق".
وأوضح "كريمة" أن ما تردده جماعات التكفير بشأن المشروع الإسلامي "اكذوبة"، ولو كان هناك مشروع إسلامي لكان الأزهر الشريف هو المسؤول عن كل هذه الأمور، وذلك من الواقع والتاريخ والاختصاص ووفقا للدستور المصري، لا جماعات العنف والتطرف حملة السلاح.
وتابع: "كان فرج فودة، رحمه الله، صاحب فكر مستنير، ولا أري فيما ورد بالمناظرة خروجا عن الدين، فما قاله عن الخلافة الإسلامية حقيقة، وأنا أرى مثله تماما أن رسول الله جاء للبشرية مبلغا ونذيرا، ولم يرسله الله إلى العالمين حاكما، فالنبي الكريم كان حاكما شرعيا فقط".
ولفت أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر إلى أن قتل الأنفس وتفجير العقول المفكرة المدبرة، جريمة لا ترضى الله ولم يقل بها الشرع الحنيف، والإسلام الصحيح لا يدعو للدولة الدينية بل إلى مجتمع ديني يعظم فيه الإسلام ويحافظ على حقوق أهل الكتاب، مشيرا إلى أن الالتصاق بـ"الخلافة" مجرد "سبوبة" دعوية الغرض منها السلطة، وهؤلاء الناس مرضى وقتله.
أما الدكتور عمار على حسن، الكاتب والباحث في العلوم السياسية، فقال إن ما أقدمت عليه "الجزيرة" يؤكد للجميع دموية هذه الجماعات واعتمادها على الاغتيالات والرصاص في وجه أصحاب الأقلام.
وأضاف لـ"العين الإخبارية": "إعادة البث تكريس للصورة الدموية لهذه الجماعات التي اعتادت تبرير جرائمها ولم تجرب مرة واحدة على مدار التاريخ الاعتذار عنها".
وأكد أن خطورة فرج فودة على مشروع توظيف الدين في طلب السلطة السياسية كانت تكمن في قدرته على إطلاق أفكاره بشكل مباشر وبسيط وسهل دون خوف أو تردد، لتصل في الأخير للبسطاء والعامة في الشارع المصري.
وتابع: "آراء فرج فودة كانت صدى حقيقي لآراء أكثر عمقا طرحت منذ أن قدم شيخ المجددين عبد المتعال الصعيدي مشروعه في التجديد، وكان مشروعا رائعا للغاية، لكن كان يفهمه الخواص فقط، ويعتمد على الآراء الفقهية والمسائل المرجعية، وجاء فرج فودة وأعاد إنتاجها بلغة بسيطة ومباشرة تصل للناس بسهولة، وساعده على ذلك قراءاته المتعددة والمتنوعة وعقليته الأكاديمية وقدرته على التعبير وشجاعته في الطرح".
أما الدكتورة آمنة نصير، أستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، فتقول إن المدنية في شرع جماعات الإسلام السياسي إنكار لله وكفر وإلحاد، واعتادوا على مواجهة الفكر بالتشويه والقتل، "وهذه هي أخلاقهم وتاريخهم".
وأكدت أن "فرج فودة كان ضحية للعقول المظلمة، ولم يدرك مناظروه للحظة واحدة أن المدنية فلسفة حياة للإنسان المعاصر".
وأوضحت أن التباهي والتبرير لقتلة "فودة" إفلاس إنساني وديني لعقول خربها التعلق بالسلطة والفوضى.
وأضافت لـ"العين الإخبارية" أن نوع الحكم تفرضه مستجدات الحياة، وأن الإسلام لم يضع أسس إلا العدل والشورى، والحكم بعدها يأتي متوافقا مع العصر، وطالما العصر لم يتطلب الخلافة فلا مكان لها، لأنها ليست من ضروريات الحياة العصرية والحكم.
وتابعت: "الإسلام الصحيح يطالبنا بالتدبر والفهم وقبول الآخر والفكر المختلف، واستخدام الحجة بالحجة، ولم يأمر بالإكراه والاغتيال والقتل، فليس من الدين إزهاق أرواح الناس باسم الشريعة".