في الهند تسود ثقافة التآلف، في السياسة والآداب والفنون، وتبرز إيجابيات التراث الهندي المتنوع والقيم التي تُمجّد بهجة الحياة على الأرض
قيم التسامح والتآلف والتعايش السلمي، واحترام التنوع الثقافي والتعدد الديني تشكل روح الهند وتراثها الفلسفي، وقد تجسد ذلك في كافة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية.
ابتعدت أذهان مسلمي الهند عن التشخيص والتجسيد، واحترمت الحرية الدينية لكل ملة، وانغمست في تراث الهند الفلسفي والديني المتعدد، واكتشفت أن بناء الهند لا يقوم إلا على مبدأ التسامح والعيش المشترك
وما زالت ذاكرة التاريخ تحتفظ بسيرة روح الهند العظيمة، سيرة غاندي، وفلسفته في المحبة والتواضع والتسامح واللاعنف، ونبذ الكراهية والتعصب، وهو التراث الفلسفي والمتعدد في معتقداته ومذاهبه ولغاته وتقاليده، الذي أسهم في بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال.
في الأربعينيات من القرن الماضي اصطدمت هويات في حالة تعصب، ولقي مئات الآلاف حتفهم من هندوس عديمي الرحمة ومسلمين شديدي القسوة خلال التحريض على العنف، ومحاولات فرض هويات انعزالية وعدوانية على أناس بسطاء وساذجين.
لكن الهند، تجاوزت فكرة التمركز حول الذات الدينية والعرقية إلى صناعة هوية مشتركة، جعلت حياة مجتمعها تسير بشكل أفضل، وقائمة على الشعور بالانتماء إلى جماعة إنسانية، واعتبار أن الهند أولاً، ورغم اختلاف العقائد والطبقات والأعراق لكن نظام الحياة ظل واحداً.
الروحانية في الهند، ظلت ميزة ملموسة لحضارتها، والتي نجحت في خلق وئام في ظل هذه التعددية، وبذلك تغلبت على الفوضى عبر معظم العصور، وعلى نقائص الحكم السياسي.
في الهند، تسود ثقافة التآلف، في السياسة والآداب والفنون، وتبرز إيجابيات التراث الهندي المتنوع، والقيم التي تُمجّد بهجة الحياة على الأرض، والنزعة الإنسانية والمسؤولية الذاتية.
وعرف مسلمو الهند زعماء لهم قادوا تيارات إسلامية تعارض تكفير المجتمع أو جاهليته في القرن التاسع عشر، من بينهم (سيد أحمد خان)، وهو من أسس حركة النهضة الإسلامية، التي كانت توأماً لحركة النهضة الهندوسية، وكان هدف الحركتين النهوض بالأمة الهندية معاً، وقد أسس (سيد خان) جامعة عليكره، ومن بينهم أيضاً الزعيم المسلم (حسن أحمد مدني)، الذي كان يقول «المسلمون ملزمون بالولاء للوطن الهندي، مع إخوانهم الهنود غير المسلمين، وأن يعيشوا في إخاء وانسجام داخل الهند المستقلة، والتي ستكون دار أمان وليست دار الإسلام».
وتحدث (أحمد أمين) في أحد كتبه عن (سيد خان)، وشبهه بالإمام المصلح (محمد عبده)، وذكر أن الإصلاح عنده هو «إصلاح العقلية»، والنظر إلى الدين نظرة سماحة ويسر، وأن عماد الاستقلال هو العلم ومعرفة الدين والدنيا، وأن الدين هو الذي يحيي القلب ولا يُقيد العقل ولا يشل التفكير، ويرجع الفضل إلى (سيد خان) في إقبال مسلمي الهند على التعليم، وتشجيع ترجمة العلوم الغربية إلى اللغة الأوردية.
وقاد هذا العالم الإصلاحي التيار التحديثي في شبه القارة الهندية، وواجه سلطة رجال الدين الذين يرفضون «المدينة الحديثة» بعلومها ونظمها، ويرونها «مدنية كُفر» لا يصح للمسلم أن يعيش فيها.
ومن أسف.. فإننا في عالمنا العربي لم نعرف سوى «أبوالأعلى المودودي» عالماً مشهوراً ومترجماً إلى العربية، والذي كان أثره كارثياً على حركات الإسلام السياسي، من خلال أطروحته (الحاكمية) التي ترفض حاكمية البشر وضرورة الثورة عليها، وكأن عصيانها هو أمر إلهي.
وأطلق عليه (سيد قطب) تسمية (المسلم العظيم) وتبنى أطروحته، باعتبار أن هذا العصر هو «جاهلي»، وأن الجهاد والهجرة هما بداية الحرب على البيئة المحيطة، ابتداء من المنزل حتى المجتمع (الانفصال عن المجتمع).
لم يكن المودودي فقيهاً ولم يستند إلى مرجعية أكاديمية، وطعن في كتابات له في الخليفة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان، وتجرأ على أنبياء وصحابة كثر.
وصار «أبوالأعلى المودودي» مرجعاً لكل التكفيريين، وأسس (الجماعة الإسلامية) في لاهور، بعد 13 عاماً من تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وله الفضل في تأصيل الكثير من الأفكار التكفيرية، ووضع الأسس العقائدية للجماعات التكفيرية (الحاكمية - ثنائية الإيمان والكفر - التغيير بالقوة - السمع والطاعة.. إلخ).
ومن حسن الحظ، أن ثقافة المسلم الهندي لم تتأثر بتوجهات المودودي، والتي ألغت التنوع والتعدد كسنة من سنن الكون، ونفت كل ولاء وطني، ورأت أن «ما حولها هو جاهلية».
نجا مسلمو الهند من «فرَّاخة التكفير»، ولم يلتحق هندي مسلم واحد بأي تنظيم أو جماعة من جماعات الإسلام السياسي، من أمثال القاعدة ومتفرعاتها، والدواعش وبوكوحرام، ومسميات أخرى تتشابه في أهدافها ورؤاها في أفغانستان وباكستان وإيران وإندونيسيا وغيرها.
ابتعدت أذهان مسلمي الهند عن التشخيص والتجسيد، واحترمت الحرية الدينية لكل ملة، وانغمست في تراث الهند الفلسفي والديني المتعدد، واكتشفت أن بناء الهند لا يقوم إلا على مبدأ التسامح والعيش المشترك.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة