بنظرة سريعة على المشهد الاستراتيجي العالمي، يمكن ملاحظة أن هناك تحولات في طبيعة العلاقات الدولية التي كانت حتى فترة قريبة توصف بأنها مستقرة،
بنظرة سريعة على المشهد الاستراتيجي العالمي، يمكن ملاحظة أن هناك تحولات في طبيعة العلاقات الدولية التي كانت حتى فترة قريبة توصف بأنها مستقرة، وربما اللافت للنظر في هذا المشهد أن النظام الإقليمي العربي لا يريد أن يتحرك بالوتيرة نفسها التي يتحرك بها الآخرون مثل الهند، تلك الدولة التي تشهد استقراراً سياسياً داخلياً وتسجل مؤشرات تنموية عالية.
ويبدو من متابعة حال العالم أن الدول الكبرى التقليدية لا تزال تتحكم في كثير من القرارات التي تسيّر السياسة الدولية، ولكن في المقابل لا يمكن لأحد أن ينكر الدور الإقليمي لدول أصبح لها حضورها في مسائل تقرير المصير في إقليمها من واقع المؤشرات الدولية. وتعدّ الهند واحدة من تلك الدول الجديدة في الساحة الدولية، سواء في الاقتصاد وفي القوة الناعمة (التراث الهندي) والقوة الخشنة (التسلح)، بل إنها وفق تقارير عالمية تقدّمت اقتصادياً على دول كانت تحسب من الدول الكبرى مثل بريطانيا.
وبشهادات دولية، أصبحت الهند دولة لها كلمتها في المسائل التنموية بأشكالها كافة. وفي معايير العلاقات الدولية، استطاعت الهند في عهد رئيس وزرائها الحالي، ناريندرا مودي، المحسوب على اليمين، أن تحقق سلاماً مع باكستان، العدو التقليدي لها، في إشارة إلى أهمية تكوين «حزام من الأصدقاء» في الجوار الجغرافي الذي يشهد تجاذباً بين القوى السياسية في الشرق الآسيوي، وذلك بعدما أدرك أصحاب الإقليم أن استمرار سياسة التصلب في المواقف لا تقدم نفعاً في عملية مجاراة سياسة التغيير العالمية، الأمر الذي حدا بالجميع إلى إعادة التفكير في مسألة طبيعة الأصدقاء والتحالفات، بل حتى الأدوات التي يتم استخدامها في التعامل مع الآخر.
حالة التحول في الاستراتيجية العالمية، وبشكل أكثر دقة، «الاتجاه شرقاً»، والمقصود بها الصين والهند، لها صداها على المستوى العالمي، ولعل دول الخليج العربي معنية بهذا التحول أكثر من غيرها، نتيجة للإرث التاريخي المشترك مع دول شرق آسيا، وبالأخص الهند التي ليس لها مشاريع توسعية ضد الجوار الخليجي، أو أفكار مذهبية تمليها على الآخرين، بفضل نظامها السياسي الذي لا يؤمن بالأيديولوجية الجامدة، الأمر الذي يجعل منها دولة مرغوباً فيها على عكس بعض دول الجوار الخليجي. وفضلاً عن الاستقرار السياسي الذي يشكل عامل جذب أيضاً، وحالة النهوض الاقتصادي التي تشهدها بعد أن غدت بين الدول السبع الأولى في مؤشرات النمو الاقتصادي العالمية، مما حولها إلى دولة لديها القدرة والرؤية الاستراتيجية من أجل لعب دور إقليمي وعالمي منتظر.
وينقل أحد الإماراتيين الذين أتيحت لهم فرصة تقديم الدراسات العليا في الهند والذين انبهروا بحالة الصعود الآسيوي، أن الهند امتلكت إرادة الانخراط في مجاراة القوى الكبرى في صناعة الأحداث، وتساعدها في ذلك حالة التراجع لدى تلك القوى عن لعب دورها الرئيس في العالم. وبما أن هناك توجهاً في إعادة صياغة التحالفات العالمية، فإن الهند تعتبر نفسها أفضل من يقود هذه المنطقة، في ظل انشغال الجميع بقضايا تحقيق الاستقرار الداخلي. وقد نمت هذه الفكرة بعدما أدركت القيادة الهندية أن الإقليم الشرق أوسطي غير مستقر. فالقوة الخارجية تبقى ضعيفة طالما أن الداخل ضعيف، وهو ما تجاوزته الهند منذ فترة.
زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى الهند، خطفت الأضواء، واختياره لكي يكون ضيف الشرف الرئيس في اليوم الوطني للهند، مع مشاركة رمزية للقوات المسلحة الإماراتية، صرفت الأنظار عن الكثير مما كان يحدث في المنطقة. فهي تعطي رسائل ومؤشرات ليس فقط لمكانة الهند في الاستراتيجية العالمية، ولكن أيضاً حول التفاعل الإيجابي لدولة الإمارات مع مجمل السياسات التي تخدم الاستقرار والأمن الدوليين، وكذلك لأننا اعتدنا من الإمارات المبادرة في بناء استراتيجيات «خارج الصندوق» تمهيداً لتحركات عربية في محاولة لبناء تحالفات جديدة لسد الفراغات السياسية الإقليمية التي غالباً ما تمثل «ثغرات» لدول لديها أطماعها الإقليمية.
والزيارة هي انعكاس لوتيرة التحرك الدبلوماسي لدولة الإمارات نحو الشرق وغيره من مناطق العالم، حيث باتت لديها القدرة على أداء دور فاعل في السياسة الدولية، الأمر الذي يعني أن هناك تمهيداً لتغيرات جذرية في الاستراتيجية العالمية، وهو ما يحتاج من العرب عموماً تحركاً يبقيهم ضمن التفاعلات الدولية بدلاً من التفاجؤ بالدخول في مرحلة «التغييب الاستراتيجي»، وذلك ما تفعله دولة الإمارات.
*نقلاً عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة