لا أرى اختلافاً في حال العرب خلال الانتقال من عام إلى عام عن حال الأتراك وحال الفرس.
لا أذكر عاماً خلف للعام الذي يليه ما يخلفه العام المنقضي لعام آتٍ بعده من قضايا خطيرة بعضها بالغ التعقيد وبعضها مصيري أو بالأصح تاريخي. نماذج كثيرة تلك التي تستحق التوقف عندها ولكني أبدأ باختيار نماذج دولية وأمرّ بنماذج إقليمية. لن أطيل في عرض القضايا ولن أغوص في أعماقها أو أجهد القارئ معي في سرد تفاصيلها ولكن في الوقت نفسه لن أغمطها حقها في الأهمية.
* أولاً: يجب أن نعترف أن الشعب الأمريكي صدمنا بمفاجأة هزتنا بعنف حين انتخب البليونير ورجل العقارات الشهير دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. وحين أقول هزتنا فأنا أضع نفسي ضمن ملايين بل بلايين البشر الذين يتأثرون شاؤوا أم أبوا وفي السلم كما في الحرب بالسياسات والقرارات التي يتخذها رؤساء أمريكا. أشهد، كمراقب، أنه خلال الشهور الأخيرة من الحملة الانتخابية استطاع هذا الرجل أن يفرض الارتباك على معظم أجهزة القرار في العالم. أبدع في تنفيذ مسلسل جميع حلقاته رابطها الكذب. استطاع أيضاً أن يجمع في حكومة يشكلها شخصيات أثارت أشد القلق في الداخل كما في الخارج قيل عنها إنها حكومة «عسكر» مطعمة بأغنى أغنياء أمريكا أحدهم إذا تكلم فكلامه محسوب على روسيا وربما على فلاديمير بوتين شخصياً. بوتين مستمر معنا في العام الجديد ولا يمكن أن نتجاهل حقيقة أنه الزعيم الذي لا يخفي رغبته في أخذ ثأره من أمريكا التي هزمت بلاده شر هزيمة وأخرجتها من قمرة قيادة العالم.
* ثانياً: تيار العولمة يخترق حدود العام الجديد متكسراً على صخور عديدة. تخرج العولمة من العام المنقضي أقل تدفقاً وأضعف قوة من تلك التي دخل بها قبل عام. أما الصخور التي كسرت سرعته وهدت عنفوانه فأكثرها من صنع العولمة ذاتها خلال العقود الأخيرة، أبرزها في نظري ظاهرة دونالد ترامب في صيغتها الأمريكية وصيغها الأوروبية المتعددة. نذكر جيدا كيف تحمسنا لرؤية العولمة تكتسح الأسوار على الحدود بين الدول، ورؤية مبدأ السيادة القطرية تجرفه العولمة في مسيرتها لتحرير التجارة الدولية وتيسير عبور السلع والأفراد وبخاصة بين دول الاتحاد الأوروبي. رأيناها تتجاهل المشاعر القومية وتغرس مكانها مشاعر إقليمية أو هويات أوسع كالأوروبية مثلا. رأيناها تسقط القيود التقليدية المفروضة على حرية «التهاجر»، وفرحنا بها وهي تنشر الوعي بالحقوق الطبيعية للإنسان وبخاصة حقه في ممارسة الحرية والمساواة واحترام الدولة لكرامته كمواطن. وكما أن لكل فعل رد فعل كان للعولمة ردها، إذ بفضلها انتعشت الهويات الثانوية وبانتعاشها تولدت طاقة هائلة للانفراط وطاقة متجددة للحقوق والحريات وطاقة إضافية للمطالبة بالمساواة والعدالة الاجتماعية، هذه الطاقات وغيرها اجتمعت في وقت واحد فانتفضت القوى المناهضة للعولمة والمتضررة منها.
* ثالثاً: شهد العام الحالي حالة تكاد تكون قصوى من حالات الانسحاب الأمريكي عن الفعل الدولي. العام نفسه شهد حالة تكاد هي الأخرى تكون قصوى بين حالات الاندفاع الروسي خارج الحدود. أتصور في الوقت نفسه أن الأسابيع الأولى من العام الجديد الذي يبدأ بعد أيام قليلة سوف تشهد بدورها استمرار التدفق المنطقي للأحداث. بمعنى آخر سوف تشهد ونشهد خطوات من جانب روسيا لتثبيت إنجازاتها في الشرق الأوسط وبخاصة في سوريا وتركيا و«إسرائيل».
لا أستبعد أن نرى جهوداً حثيثة خلال الأشهر القليلة القادمة من جانب الطرفين الأمريكي والروسي للعمل على إرساء قواعد وأسس نظام دولي جديد ثنائي القطبية. نعرف أنه لدى الدولتين «الأعظم» رصيداً لا بأس به من التعاون المشترك على امتداد عامين أو أكثر بحثاً عن تفاهم حول الأزمة السورية. أقول نظاماً دولياً جديداً لأنه إن قام فعلاً فسيكون جديدا تماما سواء في التوازنات التي ينهض على أساسها أو في مساحات النفوذ الراهنة للطرفين، وكذلك في مصادر القوة الإبداعية وبخاصة في مجال السباقات الإلكترونية.
* رابعاً: لا أرى بصيص أمل في أن تتحسن أوضاع الشرق الأوسط برمته في حال انتقلت أزماته ورموزه بأوضاعها الراهنة في عام ينقضي إلى عام آتٍ. أكرر ما قلته وأقوله في مواقع أخرى، أخطأتم يا من بيدكم قرارات السلم والحرب والاستقرار والأمن عندما رفضتم التعامل بالعقل وبعد النظر مع «حالة» الربيع العربي. إن ما حدث في المنطقة من مذابح ودمار واعتقالات وإرهاب وإرهاب مضاد دليل على أن الربيع كان يجب أن يحصل على فرصة كافية. حانت فرصة ولم تغتنمها النخب الحاكمة والسياسية بل على العكس سمحوا لقوى التخلف والاستبداد بالانقضاض عليها لوأدها حية. اليوم ينتقل أهل الشرق الأوسط وبينهم أمة العرب من عام بليد إلى عام جديد وهم يحملون بين ضلوعهم أملاً متجدداً في الارتقاء والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية.
لا أرى اختلافاً في حال العرب خلال الانتقال من عام إلى عام عن حال الأتراك وحال الفرس. مجمل هذه الأحوال لا يبشر بخير. لا أرى وراء الزحف الإيراني في أراضي العرب أملاً في سلام إقليمي، ولا أرى وراء استمرار الهيمنة «الإسرائيلية» ودعم ترامب وأغنياء أمريكا لها ولمستوطناتها وقلاعها العسكرية أملاً في سلام حقيقي. لا أرى وراء «الدروشة» الأردوغانية بين التمسك بعضوية «الناتو» وطلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ونوايا التوسع والقيادة في العالم العربي والارتباط القوي بروسيا الصاعدة وسباق التسلح مع إيران، لا أرى وراء كل هذه الأمور أملاً في سلام هادئ بدون اغتيالات واعتقالات. لا أرى وراء إعفاء الجامعة العربية من مسؤولياتها في الأمن العربي وربما من مسؤوليات أخرى سوف نسمع عنها قريباً أملاً في وفاق عربي قريب. لا أرى وراء استخدام السلاح والحرب والتجويع والاعتقال أملاً في حل مشكلات شعوبنا.
ليس كل المحمول من عام ينتهي إلى عام قادم سيئاً. لا يمكن أن يكون. ربما كانت حمولة هذا العام بالفعل ثقيلة وقاسية بل ومتحاملة على كافة الشعوب إلا أنها قد تكون الفرصة الدافعة لتتحرك هذه الشعوب وتنهض وتشارك في صنع مستقبلها.
* نقلا عن الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة