المبادرة التي خرج بها "إعلان البحرين" الصادر عن القمة العربية العادية الـ33 التي استضافتها مملكة البحرين الشقيقة يوم الخميس الماضي والتي حملت دعوة إلى نشر قوات أممية في قطاع غزة لحفظ الأمن وتثبيت الاستقرار هناك هي خطوة عربية استباقية.
تؤكد هذه الخطوة على تغيّر الفكر العربي نحو معالجة القضايا، كما تضمن الإعلان عقد مؤتمر دولي حول القضية الفلسطينية بهدف تفعيل مسار التسوية على أساس حل "الدولتين" وهو ما يعني أن العمل لم يعد يعمل بطريقة ردة الفعل بقدر أنه بات عملاً مبادراً.
وبهذا التوجه، تكون القمة العربية قد قطعت شوطاً مهماً نحو تطوير وتنشيط آليات وأسس النظام العربي الذي تجسده مؤسسياً الجامعة العربية. وتحديداً في إطار التفكير الاستباقي ووضع رؤى وخطط مستقبلية للتعامل مع القضايا والتحديات الجارية في المنطقة. أو ما يمكن وصفه بالاستعداد والتحضير لمتطلبات واستحقاقات "اليوم التالي" الإسرائيلي. أي ما بعد حرب غزة بنتائجها الكارثية وما تتضمنه من أعباء ثقيلة تنتظر الفلسطينيين والعرب والمنطقة وربما العالم كله.
وبينما تحرص بعض الدول العربية، وعلى رأسها دولة الإمارات، على استشراف المستقبل والعمل عليه مبكراً في جميع تحركاتها وسياساتها الداخلية والخارجية، بما يضعها في موقع الريادة والسبق، فإن الوضع ليس كذلك في الإطار العربي الجماعي، فلعلها من المرات القليلة النادرة إن لم تكن المرة الأولى، التي ينتهج فيها العرب بشكل جماعي هذا المنهج العلمي في مواجهة التطورات الجارية والتحديات المترتبة عليها والنتائج المتوقعة لها.
وليس هذا الشيء الإيجابي الوحيد في ذلك الموقف العربي الاستباقي، بل إن الموقف العربي ومضمون الخطوة التي بادرت إليها القمة العربية في البحرين، لم يقف عند المسائل الإجرائية والترتيبات الجزئية والتنفيذية لوضع غزة بعد الحرب. وذلك على الرغم من أهمية بعض تلك الجوانب مثل إعادة الإعمار وإدارة القطاع.
لكن التوجه العربي ذهب مباشرة إلى كيفية التعامل مع أصول أو جذور الموقف الحالي بتعقيداته وتشابكاته، ليكون التصدي والمواجهة مع تلك الأصول والجذور شاملاً ونهائياً ولا ينشغل بالجوانب التفصيلية والتطورات التكتيكية المتغيرة.
فمطالبة الدول العربية بعقد مؤتمر دولي لحل القضية الفلسطينية، تعكس إدراكا بأن الحرب الراهنة في غزة، وأي تطورات أخرى في القطاع أو الضفة الغربية أو مجمل مكونات الملف الفلسطيني الضخم والمشحون، كلها أعراض أو مظاهر لعدم حل أصل القضية وهو منح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة. بما يستلزمه ذلك من إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وتسوية عادلة للقضايا المعلقة، مثل القدس وحق العودة.
الأمر الذي يعني بدوره ضرورة وجود التزام عالمي بذلك الحل الشامل، وضمانة من كل الأطراف بتطبيقه وإنجاحه. وهو ما يفسر أن يكون المؤتمر المطلوب دولياً شاملاً لكل القوى الكبرى والأطراف ذات التأثير والثقل، أي التي تملك القوة والقدرة على فرض ما يتم التوافق حوله في ذلك المؤتمر على كل الأطراف وأولها إسرائيل.
ولقد تضمنت نتائج القمة العربية في البحرين، أيضاً، الدعوة إلى نشر قوات دولية في غزة. لحفظ الأمن وضمان عدم تكرار مأساة الحرب الدموية الجارية هناك حالياً. وفي هذه الخطوة معطيات كثيرة وملابسات وتداعيات محتملة في أكثر من اتجاه. ما يجعل التقييم النهائي للفكرة محل جدل ويحتاج إلى تفكير متعمق وتشاور عربي-عربي.
أياً ما كانت نتيجة ذلك التقييم، فإن ما لفت نظري أن هذا الأسلوب في التفكير جديد على الأداء الجماعي العربي. وأعني به ليس فقط استشراف المستقبل والتعامل معه مسبقاً، لكن أيضاً مراعاة الجوانب الواقعية المرحلية التي قد تعطل أو تفسد أفكاراً رائعة وحلولاً مثالية. فقد فكر العرب في أن المؤتمر الدولي المطلوب، لن ينعقد على الفور أو خلال أيام أو أسابيع. وما سيسفر عنه من حلول وخطط، سيستغرق بالضرورة فترة من الزمن ومراحل متدرجة في التنفيذ. بينما الواقع على الأرض والتطورات اليومية بحاجة إلى ضبط وترشيد، كي لا تشهد مفاجآت أو أزمات ربما تنسف المسار الإيجابي العام.
بنظري تلك المبادرات جديرة بالتوقف عندها والبناء عليها وتطويرها بعد قمة البحرين لأنها كثيراً ما كانت تفتقده السياسات العربية. من المهم جداً أن تكون أعين العرب دائماً على المستقبل، توقعاً واستعداداً، بالتفكير والتحضير معاً، أي خططياً وعملياً في نفس الوقت.
فالاستعداد لليوم التالي باعتباره استراتيجية مستقبلية وليس خطة نتنياهو، يجب أن يكون نمطاً ثابتاً في السياسات العربية الجماعية، كما هو قائم بالفعل لدى الإمارات وبعض الدول العربية، حيث يسهم استشراف اليوم التالي والجهوزية له في تقدمها وتعاظم مكاسبها في المجالات كافة. والمأمول أن تكون قمة البحرين بداية مبشرة لتثبيت هذا التوجه وتطويره على المستوى الجماعي عبر الجامعة العربية وكل مؤسسات العمل العربي المشترك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة