أصبح الابتكار عنصرًا هامًا للعديد من المجالات، وتنوعت تعريفاته ومصطلحاته ومفاهيمه وتطبيقاته.. حتى غدا حاجة أساسية للبشرية وتطورها، بل تجاوزت ذلك لتلبي متطلباته وتواكب تطوره.
وإذا ما أمعنا النظر في البعد التاريخي للابتكار نجده ليس بالمفهوم الجديد والمعاصر، حيث اهتمت به الحضارات السابقة وكرست تطبيقه وفقا لطبيعة احتياجاتها منذ آلاف السنين، كالحضارة السومرية، التي تميزت مجالاتها الابتكارية والإبداعية في الزراعة والبناء والنقل والكتابة والهندسة.
وقد أشار إلى ذلك العديد من المؤرخين مثل صموئيل نوح، الذي قال إن "لدى السومريين شغفا لا متناهيا للإبداع والابتكار"، كما وصفهم فيليب جونز بأنهم "عباقرة زمانهم"، حتى أصبح الابتكار جزءا من هويتهم رغم قلة إمكانياتهم.
ولعل الدافع الرئيسي لظهور ابتكاراتهم هو سد الحاجة الضرورية التي تمكنهم من الاستمرار في مزاولة حياتهم، كما يقول المثل الإنجليزي: "الحاجة أمُّ الاختراع".
لم يتبلور مفهوم الابتكار خلال حضارات، كالسومرية، ليأخذ شكلًا علميًا وتنظيميًا، وإنما اقتصر دوره على مبدأ أساسي اعتمد على التفكير البشري والممارسة التطبيقية.
لقد استمر نهج الابتكار في أخذ مسار ونسق تصاعدي نتيجة للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ونلاحظ أن هذا التطور تواءم مع تطور الحضارات والبشرية، كما تجدر الإشارة إلى الحقبة الزمنية للحضارة الإسلامية وإنتاجياتها الابتكارية، التي كان لها الأثر الواضح من خلال إسهامات علمائها الذين سطروا تلك الابتكارات في سبيل خدمة البشرية، مثل الخوارزمي، الذي أسس منهجاً مبتكرًا في علم الجبر والرياضيات، وتُرجم العديد من كتبه إلى اللاتينية، وكذلك ابن سينا، الذي أُطلق عليه لقب "أمير الأطباء"، وابتكر في وصف داء السحايا ووظّف المعالجات النفسية في التشافي السريع، وأيضا "الرازي" الذي ابتكر خيوط الجراحة واهتم بصناعة العقاقير الطبية، ونجد إسهامات "ابن الهيثم" الذي طوّر نظرية الإدراك البصري، التي تمت من خلالها صناعة الكاميرات.. وغيرهم الكثير من العلماء المبتكرين الذين كانت لهم بصمة إبداعية واضحة في تطور البشرية.
لذا شكلت مخرجات تلك الحضارات اللبنة الأولى لتطور مفهوم الابتكار وتعدد مجالاته، وانعكس ذلك على عصر النهضة في أوروبا وامتد إلى ظهور الثورة الصناعية، الذي تخلله العديد من الابتكارات التي لعبت دورا بارزا في تغيير النمط الاقتصادي والفكري وحياة البشرية، إذ تنوعت ابتكاراته باختراع آلة الطابعة من قبل الألماني يوهان غوتنبرغ، والكهرباء عبر توماس أديسون، والهاتف عن طريق غراهام بيل، ما أدى إلى الحاجة إلى ظهور أحقية براءة الاختراع وفق اتفاقية باريس للملكية الاقتصادية، التي بدأ تفعيلها عام 1884م، والتي تواترت بعدها العديد من المعاهدات والاتفاقيات، التي تحفظ الحقوق الفكرية للمخترعين والمبتكرين.
نلاحظ أن تدرج الاهتمام بالابتكار قد أسهم في التطور الفكري والعلمي، الذي أدى إلى ظهور نظريات متعلقة بالابتكار، حيث بدأ علماء الاقتصاد والاجتماع بوضع نظريات، منها "نظرية انتشار المبتكرات"، والتي طوّرها أستاذ العلاقات العامة في جامعة نيومكسيكو عام 1962م، و"نظرية الابتكار" عند غودين، كما استمر تنوع النظريات ومنهجيات الابتكار التي أطلقت عليها تسميات كـ"الابتكار الاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والتعليمي والمؤسسي"، حتى أصبح الابتكار مرتبطا بالتطور الثقافي والعلمي والاقتصادي للمجتمعات والدول، وبدأت هذه العلاقة تأخذ حيزا متكاملا واهتماما بالغًا، ما أدى إلى خلق نوع من التنافسية الإيجابية، والتي صدرت على أثرها تقارير التنافسية العالمية عبر مؤشر الابتكار العالمي GII، الذي يقيس مستوى النضج الابتكاري للدول ومدى قدرتها على وضع رؤية شاملة وبرامج تطبيقية متعلقة بالابتكار تتوافق مع استراتيجياتها التنموية.
لم يكتفِ الاهتمام بالابتكار بإدراك ماهيته الضرورية اللا متناهية، إذ أقدمت الدول على إدراجه ضمن مؤسساتها التعليمية، ووضعت له مناهج وأساليب لدراسته، كما أن هذا الاهتمام قد استمر في تطبيق الابتكار لدى المؤسسات الحكومية بعد أن كان مقتصرا على المؤسسات الاقتصادية والصناعية، حيث بدأت العديد من الجهات الحكومية في وضع استراتيجيات للابتكار وتخصيص مختبرات له وتوفير برامج للتحفيز على تقديم وتبني الأفكار الإبداعية حتى أصبح الابتكار منظومة متكاملة يمكن أن تنقسم إلى جزأين "إداري وتطبيقي".
إذًا، إدراك أهمية الابتكار ودوره الحيوي واستدامته يقودنا إلى التطلع نحو المستقبل، لكن تبقى هناك تساؤلات عدة ينبغي أن نستوضح إجاباتها وبيان تفسيرها، وهي التي تتمحور حول الابتكار.. هل هو علم ومعرفة أم فطرة وموهبة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة