وسط أشكال الاشتباك اللفظية والفعلية الجارية في "الأزمة الأوكرانية" الراهنة، يغيب كثيرا أصل القصة التي بدأ بعضها قبل قرون.
وبعضها الآخر في القرن العشرين، وبعض ثالث كان بعد ثلاثة عقود فقط من انفضاض سامر الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ووُلد نظام عالمي جديد قام على "العولمة" والقيادة الأمريكية، باعتبار الولايات المتحدة القوة العظمى الباقية.
أعلن الفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، لأن الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية انتصرت بعد انتهاء كل التناقضات العالمية، التي تحرك التاريخ.. فالحقيقة التاريخية الأولى هي أن أوكرانيا دولة تقلبت كثيرا خلال الزمن القديم والحديث بين إمبراطوريات متعددة، ولكن أكثرها قربا ودواما كانت مع روسيا، التي تداخلت معها في العهد القيصري، وكذلك في العصر الاشتراكي، حينما باتت درة التاج السوفييتي، حتى إن أحد مواطنيها "خروتشوف" منحها الولاية على منطقة القرم.
طوال التاريخ لم تكن أوكرانيا دولة مستقلة إلا في فترات قليلة كان آخرها 1917، وبعدها عادت إلى الحياة مرة أخرى في 1991.
الحقيقة التاريخية الثانية هي الأوضاع الجيوسياسية لأوكرانيا، فهي واقعة في روسيا عمليا، كما أن جزءا من سكانها "تختلف النسب المعلنة من 17٪ إلى 35٪" ينتمي إلى روسيا لغويا وإثنيا، وبينما صوّت جزء منهم لضم منطقة القرم مرة أخرى إلى روسيا، فإن الجزء الآخر المتبقي داخل أوكرانيا عبَّر كثيرا عن رغبته في الانفصال.
والحقيقة التاريخية الثالثة معاصرة، وهي أنه منذ الاستقلال الأخير، فإن أوكرانيا تأرجحت ما بين الاقتراب من روسيا "اتقاءً لشرّها"، والابتعاد عنها والاقتراب من المدار الأوروبي والأطلنطي "ردعًا لشرّها" أيضا. وما بين هذه الناحية وتلك، تولدت الأزمة الراهنة بعد أن دخلت فيها عناصر جديدة تولدت خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
وبينما كان العقد الأخير من القرن العشرين مواتيا بقوة لفك الاتحاد السوفييتي، فإن العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين شهد يقظة جديدة في القوة الروسية تحت لواء الرئيس فلاديمير بوتين، الذي وجد في تراجع القوى الغربية خلال هذا العقد فرصة من أجل استعادة روسيا لمكانتها مرة أخرى.
ظهر ذلك في سلسلة من الخطوات شملت التدخل العسكري في جمهورية جورجيا أيضا لحماية أقليات روسية، ثم بعد ذلك ضم القرم مرة أخرى من خلال إجراء استفتاء، وخلال هذه الفترة بات لروسيا وجود عسكري فعال في سوريا أضاف إلى نفوذها في الشرق الأوسط، وأخيرا فإن الختام جاء مع رغبة "بوتين" في الحصول على تعهدات غربية بعدم امتداد حلف الأطلنطي إلى أوكرانيا واعتبار ذلك تهديدا مباشرا للأمن القومي الروسي.
صحيح جرت استعادة الروابط الروسية الأوكرانية القديمة، ولكنها ظلت دائما أشبه بلوحة خلفية ربما تمهد لمطالب في المستقبل، ولكن ما حدث من تحركات روسية خلال الأزمة دار رسميا دائما على منع حلف الأطلنطي من الإطلال على الأراضي الروسية.
على الجانب الآخر، الأمريكي والأوروبي، وفي مواجهتهما الحالية مع روسيا، تدافع الولايات المتحدة وحلفاؤها عن مبدأ أن جميع جيران روسيا، الأوروبيين، يجب أن يكونوا أحرارًا في السعي للحصول على عضوية الناتو، وأن الناتو يجب أن يكون حُراً في دمجهم.
وبالفعل، منذ نهاية الحرب الباردة، وسَّعت الولايات المتحدة الضمانات الأمنية، في شكل عضوية الناتو، إلى ست دول سابقة في حلف وارسو وثلاث جمهوريات سوفييتية سابقة.
ويواصل حلف الناتو الآن الإصرار على أن بابه يجب أن يظل مفتوحًا، وأن ست جمهوريات سوفييتية سابقة متبقية، وأربع منها على الحدود مع روسيا، يجب أن تتمتع بالمثل بالحرية في التقدم والحصول على عضوية الحلف.
وأدى تفكك الاتحاد السوفييتي إلى جعل أوروبا منقسمة بين الدول الأعضاء في الناتو والدول محتملة العضوية في الناتو وروسيا.. والحقيقة أن ميخائيل جورباتشوف -آخر رؤساء الاتحاد السوفييتي- وبوريس يلتسين -أول رئيس لروسيا الاتحادية- عبَّرا عن اهتمامهما بعضوية الناتو، وتم تجاهل مطالبهما، بينما أصرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على أنه يمكن لجميع دول حلف وارسو السابقة والجمهوريات السوفييتية الموجودة في أوروبا التقدم بطلب للحصول على العضوية والنظر فيها بجدية.
الآن يطالب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الولايات المتحدة بإغلاق هذا الخيار، وعلى وجه الخصوص ألا تسعى الولايات المتحدة إلى توسيع محيطها الدفاعي على طول الحدود الروسية.
رفضت واشنطن هذا المطلب، بحجة أن مجالات النفوذ مثل تلك التي تسعى روسيا للحفاظ عليها، تمثل مفهومًا قديمًا وغير شرعي الآن.
ولكن الزمن لم يعد كما كان، ورفض واشنطن للمطالب الروسية لم يعد ملائما من حيث توازنات القوى لمطلع العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، والذي يواجه لحظة تاريخية تميزها أولا حالة من التراجع الغربي والأمريكي عن حالة القيادة والهيمنة التي عاشها منذ نهاية الحرب الباردة، وثانيها أن هناك صعودا لمرتبة الدولة العظمى من قبل الصين، وعودة من روسيا القوة العظمى السابقة، وثالثها أن هناك رغبة وإرادة من القوتين الأخيرتين لمراجعة النظام الدولي والعالمي، الذي ساد بعد انتهاء الحرب الباردة، وإنشاء نظم بديلة تأخذ القطبية الثلاثية في الحسبان التشاركي، وحاجات النظام العالمي إلى تعديلات جديدة تواجه التحديات المشتركة المتعلقة بالجائحة والاحتباس الحراري والإرهاب وانتشار الأسلحة النووية والتعامل مع الفضاء الخارجي.
ولم تكن هناك مصادفة في أن الصين، التي رفضت رسميا ضم روسيا إقليم القرم، كما رفضت مواقفها المؤيدة للجماعات الانفصالية في أوكرانيا، أن تقف إلى جانب روسيا في الأزمة، من حيث ضرورة منع حلف الأطلنطي من ضم أوكرانيا بين صفوفه.
أصل قصة "الأزمة الأوكرانية"، بالإضافة إلى كونها تعبّر عن ذكريات ليست دائما سعيدة في علاقات روسيا مع أوكرانيا، وموسكو مع واشنطن، فإنها تضيف "مراجعة" النظام الدولي بعد انتهاء الحرب الباردة، وما بعد ذلك تفاصيل!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة