«الذهب الرقمي».. العالم يدخل عصر الاستخبارات مفتوحة المصدر

في زمن تتدفق فيه المعلومات كالسيل، وتتحول فيه الخوارزميات إلى أدوات نفوذ سياسي وعسكري، تدخل الاستخبارات العالمية مرحلة جديدة تمامًا.
هذه المرحلة لا تُقاس فيها القوة بعدد الجواسيس أو الملفات السرية، بل بقدرة الدولة على قراءة الفضاء المفتوح وتحويل البيانات إلى قرارات، تعيد رسم خريطة الأمن القومي كما لم يحدث من قبل، بحسب مجلة "فورين بوليسي".
صيد الأسرار
عندما تأسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية عام 1947، كان العالم يعيش على إيقاع الحرب الباردة، وكانت المعلومة تُنتزع من بين طبقات السرية كما يُستخرج الذهب من أعماق الأرض.
واليوم تغيّر كل شيء: فالبيانات تغمر العالم من كل اتجاه، والقدرة على تحليلها باتت أهم من القدرة على إخفائها.
ولا يدور السباق الاستخباراتي الجديد حول من يملك الأسرار، بل من يفهم البيانات أولًا. ومع دخول الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والهندسة الحيوية إلى قلب هذا السباق، أصبحت الاستخبارات لعبة تفوق معرفي وتكنولوجي، لا مجرد سباق على المعلومة المخفية.
الاستخبارات مفتوحة المصدر
في قلب هذا التحول تقف الاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT)، التي لم تعد أداة مساعدة، بل أصبحت المحرك الرئيس لعصر جديد من جمع وتحليل المعلومات.
ولم تعد السرية ضمانًا للتفوق، بل أصبحت الشفافية والقدرة على الاستفادة من الفضاء المفتوح هما رأس المال الحقيقي. ولهذا يرى الخبراء أن الاستخبارات مفتوحة المصدر يجب أن تُعامل كأصل وطني استراتيجي، تمامًا مثل النفط في القرن العشرين أو السيليكون في القرن الحادي والعشرين.
ومع ذلك، لا تزال مؤسسات الاستخبارات الأمريكية تتعامل مع هذا المجال بعقلية الماضي، متجاهلة حقيقة أن معظم معلومات العالم باتت متاحة علنًا.
القطاع الخاص
المثير أن بعض أعظم إنجازات الاستخبارات الحديثة لم تأتِ من الحكومات، بل من الشركات.
ففي عام 2013، كانت شركة مانديانت أول من كشف مجموعة التجسس "إيه بي تي1"، وبعدها بثلاثة أعوام، حدّدت شركة كراودسترايك هوية مجموعة القرصنة "بير الخطير".
وفي عام 2022، تمكن محللو شركة داو كيميكال، عبر بيانات علنية فقط، من التنبؤ بالعملية العسكرية الروسية لأوكرانيا قبل وقوعها بأسابيع.
وقال أحد كبار مسؤولي الاستخبارات الأمريكية صراحة، لـ"فورين بوليسي"، إن 95 بالمائة من عملي القديم كان يمكن إنجازه من مصادر مفتوحة. والرسالة واضحة وهي أن المستقبل لم يعد في مكاتب مغلقة تحت الأرض، بل في السحابة الرقمية، حيث تتحول البيانات إلى بوصلة للأمن القومي.
لكن في الوقت الذي تتطور فيه الاستخبارات، يشهد مجال مكافحة التجسس تحولًا لا يقل عمقًا. فالمعركة لم تعد تدور فقط حول مطاردة العملاء المزدوجين، بل حول التصدي للهجمات السيبرانية، والتضليل الإعلامي، والتجسس الصناعي.
وهنا، تقف شركات التكنولوجيا العملاقة مثل ميتا، وآبل، وأمازون، ومايكروسوفت، وأوبن إيه آي، في خط الدفاع الأول، مطوّرةً فرقًا خاصة لرصد النشاطات المعادية على منصاتها.
أما وكالة الاستخبارات المركزية نفسها، التي ما زالت مثقلة بثقافة الحرب الباردة، تسير بخطوات بطيئة أمام عالم يتحرك بسرعة الضوء.
الخصم الذي لا ينام
على الجانب الآخر، تبني الصين نموذجًا مختلفًا تمامًا، يدمج بين المدني والعسكري فيما تسميه "نهج المجتمع الكامل".
فبكين لا تفصل بين الشركات والجيش أو بين الأبحاث المدنية والتطبيقات العسكرية، بل تستخدم كل مورد وكل فرد في خدمة هدفها الأسمى المتمثل في التفوق على الولايات المتحدة.
وترى المجلة، أن مستقبل الاستخبارات لن يكون شأن الحكومات وحدها، بل سيتشكل عبر شراكات بين الدولة والشركات — بين السرية والانفتاح، بين الخوارزميات والعقول البشرية.
والسباق الاستخباراتي في القرن الحادي والعشرين بدأ بالفعل، والفائز لن يكون من يحتكر الأسرار، بل من يتقن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحويل البيانات إلى قوة استراتيجية.
ومن ثم، فإن هذه ليست مجرد ثورة في الأساليب، بل إعادة تعريف لمعنى الاستخبارات نفسها - ومن يملك الجرأة على التغيير، سيملك زمام القرن المقبل.