انقسم الشارع العربي بين محبط أو غاضب من مخرجات محكمة العدل الدولية فيما يخص غزة، وفريق يحاول أن يقلل من تلك المخرجات، فيما فريق ثالث غير قادر على أن يحدد موقفه، خاصة أنه يرى الإسرائيليين وعلى رأسهم رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو سعيدين بقرارات المحكمة.
وفي مثل هذه الحالة، من المهم وضع النقاط على الحروف، وتوضيح ما هو ملتبس على الجمهور العربي الذي يبدو أنه أصبح معتادًا على أن يهتف في المساء «الشعب يريد إسقاط النظام»، ويستيقظ في الصباح فيجد النظام قد سقط!! هذه المرة سيكتشف أن الأمر ليس بهذه البساطة في الحالة الإسرائيلية كما كان في الحالات العربية، وهنا عليه أن يفكر ملياً ويبحث عن السبب!
على كل حال نعود إلى موضوعنا وهو حكم محكمة العدل الدولية في الطلب المقدم من جنوب أفريقيا لفرض إجراءات طارئة على إسرائيل، تتضمن وقف عملياتها العسكرية في غزة التي تواجه بسببها اتهامات أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية تقودها الدولة.
الحكم الذي صدر يوم الجمعة اعتبرته دولة جنوب أفريقيا «تاريخياً» لدرجة أنها قالت: «إن نيلسون مانديلا سيبتسم في قبره نتيجة تلك القرارات». ومن ناحية المبدأ وقبل الدخول في التفاصيل، فمن المهم أن يدرك الجميع أن ما يحدث في غزة لم يعد أمراً سياسياً، فبعد هذه المحكمة أصبح هناك التزام قانوني على إسرائيل وجميع الدول الموقعة على اتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية تمنعها من دعم أي عمل من أعمال الإبادة الجماعية، كما تمنع إسرائيل من ارتكاب الإبادة الجماعية.
في مقابل الموقف المتفائل من جنوب أفريقيا، هناك جماهير في الشارع العربي تشعر بخيبة أمل، لأن محكمة العدل الدولية لم تأمر بإنهاء ووقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، ويقارن هؤلاء هذا القرار بما اتخذته نفس المحكمة سابقاً من قرارات وأحكام ضد روسيا وعملياتها العسكرية في أوكرانيا، لذا يرى هؤلاء أن حكم محكمة العدل الدولية مخيب للآمال وغير عادل.
وفي هذه الجزئية بالتحديد هناك واقع لم يرغب قضاة محكمة العدل الدولية بالقفز عليه، فالمحكمة لا يمكن أن تطلب وقف العمليات العسكرية لأنها ليس لها ولاية قضائية على حركة حماس حتى لو أعلنت الأخيرة مسبقاً، أنها ستحترم قرارات محكمة العدل الدولية، لذا نجد حتى جنوب أفريقيا التي تقدمت بالطلب لم تقف عند هذه النقطة طويلاً لأنها تعرف القانون الدولي وتعرف حدود عمل المحكمة.
النقطة الأخرى ترتبط بالإبادة الجماعية، فعندما ناقشت المحكمة ما إذا كانت هناك مؤشرات خطيرة على الإبادة الجماعية أو انتهاكات لاتفاقية مناهضة الإبادة الجماعية، من الواضح جداً أن القضاة وصفوا العملية العسكرية الإسرائيلية بأكملها على هذا النحو.
وكان ذلك واضحاً من خلال الاستنتاجات التي خرجوا بها، ففي الفقرة 46 ذكرت المحكمة أن العملية الإسرائيلية تنطوي على خطر كبير من الإبادة الجماعية إلى حد أن محكمة العدل الدولية يجب أن تأمر باتخاذ تدابير، كما ذكرت في نفس المادة أن هناك مؤشرات كافية لاستنتاج أن العملية الإسرائيلية تنفذ بقصد ارتكاب إبادة جماعية.
وفي الفقرة 54 أعلنت المحكمة أن «الوقائع والظروف المذكورة أعلاه كافية لاستنتاج أن جزءاً من الحقوق التي تطالب بها جنوب أفريقيا معقول».
إذن من الواضح أن محكمة العدل الدولية تطلب من إسرائيل اتخاذ جميع التدابير لمنع ارتكاب الأفعال المدرجة في المادة 2 من اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وهذا مطلب أساسي للعالم حققته المحكمة، لذا كان تعليق وزير العدل في جنوب أفريقيا بقوله «إن الإمكانية الوحيدة لإسرائيل لاحترام القرارات التي أمرت بها محكمة العدل الدولية هي إنهاء جميع عملياتها العسكرية».
النقطة المهمة الأخرى في قرارات محكمة العدل الدولية بعد جلستها في 26 يناير/كانون الثاني 2024، هي أن جميع الدول الأعضاء في اتفاقية مكافحة الإبادة الجماعية أصبحت ملزمة بتحقيق كل ما في وسعها لمنع استمرار الأعمال الإجرامية، بما فيها الدول الداعمة لإسرائيل -على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والاتحاد الأوروبي- فبحكم القانون يجب أن توقف دعمها السياسي أو العسكري أو المالي أو أياً كان شكله، بل عليها من الآن أن تفعل كل ما في وسعها لمنع إسرائيل من ارتكاب الأفعال التي وصفتها محكمة العدل الدولية بأنها «أفعال ذات مؤشرات خطيرة»، على أنها يمكن أن تكون «أعمال إبادة جماعية».
بعض محاولات التقليل من شأن قرارات المحكمة هو ما يتم ترديده من أنه ليس لدى محكمة العدل الدولية وسائل ولا سلطة لإجبار إسرائيل على تطبيق القرارات التي أمرت بها المحكمة، ويبدو من ناحية الشكل هذا الكلام صحيحاً، لكن من ناحية المضمون لا يبدو كذلك، ويجب ألّا يكون محبطاً لنا، خاصة إذا ما علمنا أن كثيراً من الأمور التي عادت إلى نصابها في العالم كانت بسبب القانون الدولي، لذا فإن ما صدر من قرارات سيكون دافعاً لتحرك المجتمع المدني والمؤسسات والمنظمات الحقوقية للعمل مع حكوماتهم للضغط من أجل تحقيق وتنفيذ قرارات المحكمة التي تهدف في نهاية الأمر إلى منع الإبادة الجماعية وحماية المدنيين، فضلاً عن تقديم المساعدات العاجلة للاجئين في غزة، فهذه تبدو الوسائل الأفضل، خصوصاً أن الجميع يدرك أن فرصة تحقيق أي تقدم أو تغيير من خلال مجلس الأمن يكاد يكون مستحيلاً، في ظل استخدام الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض «الفيتو» في أي قرار لا يكون في صالح إسرائيل.
أخيراً وفي المحصلة من المهم الإدراك أن حكم وقرارات محكمة العدل الدولية كانت انتصاراً سياسياً، دبلوماسياً، حقوقياً، وقانونياً لفلسطين، وقد تكون البداية ولها ما بعدها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة