أنت يا كورونا نقمة في حياتنا، لكن هل تعرف أنك نعمة في الآن نفسه؟ أتدرك هذه المتلازمة؟
أيها الفيروس الأحمق، ليس لنا فيما يُقال هنا وهناك، بأنك ربما تكون لقيطا بيولوجيا، أو هجينا فرّ من مخابر التجارب عن عمد بحثا عن فئران اختبار بشرية.
وليس لنا في حقيقة أنك فيروس جبان ولص مخادع ومتخف.. تأتي للآمنين خلسة وتهرب من إرادتهم مهزوما، تنتهز مكامن الضعف في الأجساد فتنهشها، وتبحث عن الواهنين فتقطع أنفاسهم، لكنك تقف حائرا عاجزا أمام الإرادة، وتتقهقر ذليلا أمام العزيمة وحب الحياة.
أردت شرا بالبشرية.. هذا مؤكد، لكنك أغفلت حقيقة أن السلالة البشرية جبلت على التطوّر الذاتي وإن في أصعب الظروف، وأن قدرتها على مقاومة الأوبئة حتى تلك الأشد فتكا منك- مؤكدة أيضا، ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة.
أنت يا كورونا نقمة في حياتنا، لكن هل تعرف أنك نعمة في الآن نفسه؟ أتدرك هذه المتلازمة؟ أتعرف أنها أزلية في مرادفات الطبيعة، وأن ما من شر إلا وله وجه خيّر؟
أنت يا كورونا نقمة في حياتنا، لكن هل تعرف أنك نعمة في الآن نفسه؟ أتدرك هذه المتلازمة؟ أتعرف أنها أزلية في مرادفات الطبيعة، وأن ما من شر إلا وله وجه خيّر؟ .
نحن اقتنصنا منك ذلك الوجه الجميل، رغم قباحة ما طالنا منك من هلع وموت ودمار نفسي واقتصادي، وإعادة لخرائط كثيرة في عالمنا وتبعثر لأوراق عديدة هنا وهناك..
الخير والشر.. أصل الحكاية التي سمعناها من أجدادنا قبل أن نخلد للنوم في ليلة ما..
تقول الحكاية إن ابن فلّاح نسي أن يغلق مربض حصان أبيه المُسن، وكان هذا الحصان هو كل ما يملكه والده.
جاء الجيران للأب يسألونه: أي شر كبير حلّ بك بفرار الحصان؟ لقد فقدت كل ما تملك، فأجابهم قائلا: ربما كان شرا.
في اليوم التالي، عاد الحصان ومعه 16 حصانا بريا، وأصبح لهذا الفلاح 17 حصانا وبات أكثر أهل القرية ثراء.
قيل للفلاح: أي خير أصابك بفرار الحصان، فأجاب: ربما كان خيرا.
وفي الغد ركب ابنه أحد الأحصنة فكُسرت رجله، فقال الجيران للأب: أي شر أصابك بكسر رجل ابنك؟ فرّد عليهم: ربما كان شرا.
وفي اليوم التالي، جاء مبعوث من ملك تلك البلاد يخبر الجميع بأن على الشبان أن يذهبوا إلى حرب ضروس لن يعود منها حيا إلا القليل.
نجا ابن الفلاح من المشاركة في الحرب، فقيل له: أي خير أصابك بكسر رجل ابنك؟ فأجابهم: ربّما كان خيرا...
انتهت القصة.. قصة ابن الفلاح، أما قصتك أنت أيها الوباء اللعين فستنتهي قريبا.. نعم نحن مؤمنون بأن هزيمتك ستكون على ذات الأيدي التي ربما صنعتك، وأن المختبر الذي أبصرت فيه النور سيكون مقبرتك قريبا.
ولأنك نلت ما تستحق من عتاب من جميع سكان الأرض، فأنا لن أعاتبك على الأرواح التي أزهقتها، ولا الأرقام التي ابتلعتها، ولا المناعة التي أوقعتها، ولا الحدود التي أغلقتها، ولا المطارات التي أوصدتها، ولا الأجواء التي لوثتها، ولا الشوارع التي أقفرت، ولا المدارس التي أخليت، ولا البورصات التي أغرقتها في لون أحمر صادم.
لن أسألك عن الفرحة التي سرقت من أعين آباء وأمهات وأبناء، ولا لقمة العيش التي حرمت منها ملايين المحتاجين حول العالم، ولا حتى عن الألم والدموع والعزاء الذي حظرته.
استكثرت على الناس حتى تشييع موتاهم، وتوديعهم الوداع الأخير.. استكثرت عليهم لحظات حزن مقدس وسرقت منهم لحظات وداع لن تتكرر في حياتهم.
سرقت الرغيف من أفواه الجياع، وحرمت الأطفال من دروسهم، ودمرت أحلام شاب كان يستعد لبناء مستقبله، وأطحت بصرح فتاة كانت تجمع دولارات قليلة لإعالة والدتها المقعدة، وكسرت الفرحة في كل مكان.
خير رغما عنك
لن أجعلك تظفر بلحظة النصر التي تنتظر، ولن أرضي غرورك بتلاوة مرثية عن البشرية، لأنها تقاوم كما قاومت الطاعون والمجاعات والحروب والويلات.
لن أجعلك تبتسم على أطلال وجودنا ولا على أنقاض فرحتنا وآمالنا وحضارتنا الإنسانية، بل سأجعلك تدمر نفسك ذاتيا حين تعلم أنك –ومن حيث لا تدري- صنعت منا بشرية جديدة.
نعم إنها سلالة جديدة من الحضارات تبرز على أنقاض ركامك.. سلالة جديدة بعادات ونواميس مختلفة.. بنظرة مغايرة وقدرة رهيبة على المواجهة..
نعم أنت من جعلتنا ننتبه إلى صحتنا أكثر، ونحذر أكثر في تعاملنا مع البكتيريا والفيروسات غير المرئية..
أنت صنعت لنا مناعة وقدرة على الصد.. أصبحنا نعقّم حياتنا بشكل كامل لنتجنبك وأمثالك..
بتنا ننتبه أكثر إلى نوعية طعامنا، ونختار منه ما يعزز مناعتنا.. أصبحنا ننتبه للتفاصيل الصغيرة في طهارتنا.
نعم أنت جعلت أنظمتنا الصحية تستيقظ من سبات عميق.. دققت جرس الإنذار وبعثت فيها الحياة..
أدركنا أننا بحاجة للاستثمار في مستشفياتنا أكثر من السلاح، وفي العقول البشرية أكثر من التسابق على النفوذ والسيطرة.
أنت وجدت عالما كان متشرذما متقاتلا متناحرا عاجزا عن لملمة جراحه.. أخرست أصوات البنادق في أغلب الأماكن، وأعلنت هدنة إنسانية قسرية في كل شبر من الأرض المكلومة.
أنت خلصتنا من شرور لم نكن يوما نجرؤ على الحلم بنهايتها.
أنت أعدت صياغة مفهوم العائلة والأواصر الاجتماعية، ومنحتنا فرصة تقارب إنساني لم نشهده مذ غزتنا وسائل التواصل وأبعدتنا ضرورات العمل والحياة عن بعضنا البعض.
منحت فرصة للآباء لاكتشاف مواهب أبنائهم، وللأطفال فرصة اكتشاف مواهبهم، وللأزواج فرصة تشارك وتقارب.. الكل اكتشف موهبة مميزة فيه بفعل الحجر الصحي القسري الذي فرضته.
أرحت ميزانيات وجيوب أرهقتها رحلات السفر وعطور باريس.
أنت قدمت في أشهر قليلة حلولا عجز عنها العالم طوال عقود.. كانت الطبيعة تئن بفعل التلوث، واختنق المناخ فساءت جودة الحياة، فجئت أنت لتمنحها هدنة أيضا.. لا سيارات ولا مصانع.. الحياة هادئة ونسبة الأوكسجين مرتفعة ولا خوف بعد اليوم من اتساع ثقب طبقة الأوزون.. الأمور باتت تحت السيطرة وقد تتغير حياتنا بفعل هذا.
صحيح أنك قطفت مئات الأرواح، لكن هل تعلم أنك أنقذت الملايين منهم في المقابل؟.. نعم أنت فعلت ذلك، فهذا الحظر والحجر قلصا نسبة حوادث المرور إلى الصفر تقريبا.. وكذلك حوادث الطيران.
لن أشكرك رغم كل ذلك لأنك لا تستحق.. قد نشكر التاريخ وقد نشكر الصدفة التي جعلتنا نعاصر العشرينيتين (2020).. أو لا يعتبر البعض أن الرقم 20 يحمل أسرارا خطيرة؟ أو ليس هو الرقم الذي حمل معه الأوبئة في كل قرن؟
سنشكر كل شيء.. قدرنا رغم ما فيه من ألم وهلع، والتاريخ والصدف.. لكننا حتما لن نشكرك أبدا، ولكننا سنظل نذكرك إلى الأبد لأنك أنت من غيرنا وصنع سلالة جديدة نظيفة معقمة إنسانية من البشرية..
لحظة.. كدت أنسى السُمنة التي سنستيقظ عليها بعد انتهاء الحجر المنزلي.. لا عليك.. سنعالجها بالكركم والزنجبيل الحارق وربما برجيم "كيتو".
حتى وإن فشلنا في الريجيم، فلن أفرحك، لن نجز المعدة لأننا سنحتاجها في هزيمة فيروسات قادمة مثلك وربما أخطر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة