يعرف الإيرانيون أن الأوربيين، وعلى رأسهم البريطانيون، لم يعد يهمهم الاتفاق النووي بقدر ما يهمهم ترتيب أوضاع المنطقة
عندما يقول رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون إنه من الأفضل استبدال الاتفاق النووي الذي أبرم بين إيران والدول الست الكبرى في العالم عام 2015. فهذا يعني أن الاتفاق لم يعد ساري المفعول وانتهت صلاحيته. بات الأمر رهناً بالوقت ليس إلا، وما كانت تبتز به طهران الأوربيين قبل أشهر أصبح الآن حبلاً مشدوداً على رقبتها.
حتى الأمس القريب، كان الخمينيون ينسحبون من الاتفاق النووي تدريجيا كي يجبروا فرنسا وبريطانيا وألمانيا على مواجهة عقوبات الولايات المتحدة المفروضة على طهران، ظلوا يمارسون هذه اللعبة حتى اصطفت الدول الأوروبية الثلاث الموقعة على الاتفاق، خلف الرئيس الأمريكي وأيدت أسباب انسحابه منه في عام 2018.
جونسون يقول إن ترامب لديه البديل عن الاتفاق النووي، لا أحد يعرف تفاصيله بعد، ولكن بحسب ما يبوح به الرئيس الأمريكي، فهو يشمل برنامجي إيران النووي والصاروخي، بالإضافة إلى أنشطتها التوسعية والتخريبية في المنطقة. بتعبير أخر هو يؤسس لعلاقة جديدة كلياً بين إيران والعالم، وبشكل خاص مع الجوار العربي.
يعرف الإيرانيون أن الأوربيين، وعلى رأسهم البريطانيون، لم يعد يهمهم الاتفاق النووي بقدر ما يهمهم ترتيب أوضاع المنطقة بما يبعد شبح الحرب عنها من جهة، ويبعد إيران عن امتلاك سلاح نووي من جهة أخرى
تبدو الصيغة فضفاضة بعض الشيء، أو لنقل تبالغ في تفاؤلها بتخلي إيران عن كل مكاسبها العسكرية والسياسية والتوسعية من أجل إحلال السلام بينها وبين جيرانها. لكن ماذا إن كان البديل أكثر قسوةً وأكبر خسارة بالنسبة للنظام الإيراني؟ هل يكابر الخمينيون في عنجهيتهم إذا هبت رياح التغيير على أركان نظام الولي الفقيه؟
قبل مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني كانت الإجابة واضحة وبديهية. كانت لدى طهران رفاهية الوقت والهروب إلى الأمام. أما بعد مقتل سليماني فقد أصبحت الخيارات أقل والوقت أضيق، وقد ازداد الأمر سوءاً بعدما قررت إيران الثأر لسليماني، فأسقطت طائرة ركاب مدنية قتلت فيها أكثر من مئة وسبعين شخصاً.
سواء كان إسقاط الطائرة عملا متعمداً أم لا. وسواء أيضا كان الثأر لسليماني محكم الدقة أم لا. فإن حسابات طهران في التعامل مع نكبة اغتيال الشخصية الثانية بعد المرشد لم تكن دقيقة، وحصاد الأزمة لم يكن كما توقعت. إما لأن الخمينيين لم يحسنوا إدارة الأزمة، أو لأن خصومهم تعاونوا وتعاملوا مع رد فعل إيران بذكاء.
قبل كل شيء تبددت أحلام الحرس الثوري الإيراني في الحرب على الشيطان الأكبر انتقاما لسليماني. الرسائل التي تبادلتها طهران وواشنطن بعد مقتل سليماني، أقنعت الإيرانيين باختيار رد لا يستدعي تصعيد الولايات المتحدة، وهذه كانت الجولة الثانية التي كسبها دونالد ترامب بعد اغتيال المسؤول عن تمدد إيران في العالم.
ظنت إيران أنها بقصف معسكرات التحالف الدولي في العراق دون أن توقع قتلى في صفوف الأمريكيين، ستحفظ ماء وجهها من جهة، وتدفع بالبيت الأبيض إلى رفع العقوبات عنها أو العودة إلى الاتفاق النووي من جهة أخرى. لم يحدث أي من هذه الخيارات وبقيت واشنطن على موقفها من التفاوض غير المشروط مع طهران، إلا بعدم رفع العقوبات الاقتصادية عنها حتى إبرام اتفاق جديد شامل معها.
مقابل "المكرمة" الإيرانية في الثأر الخائف لسليماني، لم تتخلَّ الولايات المتحدة حتى عن ضرورة توسيع مفاوضاتها مع طهران لتشمل كل أنشطتها الصاروخية والنووية والتوسعية في المنطقة. وعندما لوحت إيران باقتراب موعد انسحابها تماماً من الاتفاق النووي مع الدول الست الكبرى، رد الأوربيون بأن الاتفاق أصلاً لم يعد كافيا، والمخاوف الأمريكية إزاء السياستين العسكرية والخارجية لإيران محقة.
اصطفاف الأوروبيين إلى جانب الأمريكيين زاد الموقف تعقيداً على الإيرانيين. وتعقد أكثر بعدما تبين أن إسقاط الطائرة الأوكرانية نجم عن خطأ عسكري للقوات الجوية الإيرانية. تصاعدت خشية العالم من طهران، واتسعت الهوة بشكل كبير بين الحمائم والصقور داخل النظام الإيراني. بين من يريد القطيعة مع الغرب ومن يخشاها.
الاحتجاجات الشعبية التي تلت اعتراف طهران بحادثة الطائرة، تقول إن الوضع في الداخل لم يعد بخير أبداً. وتقول أيضاً إن الاحتجاجات التي أخمدت بالقوة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، لم تكن مؤامرة خارجية كما ادعى المرشد وحرسه الثوري، وإنما كانت ثورة شعب مضطهد ضاق ذرعا بـدولته التي جرت عليه حصاراً اقتصادياً.
كرة الثلج الأمريكية التي تدحرجت باتجاه النظام الإيراني مع مقتل سليماني تكبر كل يوم. ومن أبرز ضحاياها سيكون الاتفاق النووي بين طهران والغرب. الرد السريع للرئيس حسن روحاني على مقترح رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون في الاستبدال بالاتفاق صفقة ترامب الجديدة حول إيران، يشي بذلك ويعبر عنه بكل وضوح.
يعرف الإيرانيون أن الأوربيين، وعلى رأسهم البريطانيون، لم يعد يهمهم الاتفاق النووي بقدر ما يهمهم ترتيب أوضاع المنطقة بما يبعد شبح الحرب عنها من جهة، ويبعد إيران عن امتلاك سلاح نووي من جهة أخرى. من هنا يبدو تفعيل آلية حل الخلافات المتعلقة بالاتفاق بمثابة ورقة ضغط بدأت الدول الأوروبية باستخدامها لدفع إيران نحو خيارين يتيمين؛ إما العودة إلى الالتزام ببنود الاتفاق، أو القبول بالجلوس على طاولة المفاوضات مع واشنطن والاستماع إلى صفقة ترامب.
الخياران أحلاهما مر كما يقول المثل الشعبي. وربما تبحث طهران عن طريق ثالث من قبيل مغادرة الاتحاد الأوروبي، والمضي في تفاهمات جديدة مع الروس والصينيين الذين يرفضون الضغط الأوروبي على إيران. وهنا يكمن السؤال الكبير الذي مضى على الخمينيين شوط زمني كبير وهم يبحثون له عن إجابات: إلى أي مدى يمكن لطهران الرهان على بكين وموسكو في مواجهة واشنطن وحلفائها؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة