مثلت كوريا الشمالية تحدياً مهماً للعالم بأسره، فلا أحد يعرف ما يجري داخل الحدود الصارمة لتلك الدولة.
لا خبر أكبر دولياً في الأيام الماضية من خبر اللقاء التاريخي بين رئيسي الكوريتين الجنوبية والشمالية الذي يُراد به إنهاء عقودٍ من الصراع السياسي والعسكري بين الدولتين، وهو خبرٌ لا يخص الدولتين فحسب بل هو خبرٌ يحمل أبعاداً عالميةً كبرى.
منذ عقود طويلة انحازت كل من الكوريتين إلى محور من محوري الحرب الباردة، فحين اتجهت كوريا الجنوبية للمحور الغربي الرأسمالي انحازت كوريا الشمالية للمحور الشرقي الشيوعي، واستمرت الرحلة عقوداً من الزمن كان من نتيجتها أن أصبحت كوريا الجنوبية واحدةً من أنجح الدول حول العالم؛ بل إنها أصبحت تمثل نموذجاً تنموياً مبهراً على كافة المستويات.
على العكس من ذلك اتجهت كوريا الشمالية للتركيز على السلاح النووي وحكم البلد بالحديد والنار بحسب النموذج الشيوعي المعروف، فأصبحت دولةً نوويةً تعيش اقتصاداً منهكاً وشعباً تفتك به أمراض الفقر والجهل والتخلف تحت نير ديكتاتورية الجد ثم الابن وبعده الحفيد.
إذا تم النجاح في إسقاط النموذج الكوري الشمالي بشكل كامل فإننا إزاء حقبة دولية جديدة في تاريخ العالم، وهو أمر لم يكتمل بعد، فهو ليس مثل سقوط جدار برلين الذي كان نتيجة، بل هو أمر برسم البناء والمتابعة والمراقبة، وأكثر المتضررين منه هو النظام الإيراني
مثلت كوريا الشمالية تحدياً مهماً للعالم بأسره، فلا أحد يعرف ما يجري داخل الحدود الصارمة لتلك الدولة، وهي لا تمثل أي شيء بالنسبة لجيرانها والعالم سوى التهديد المستمر باحتمال ارتكاب حماقة استخدام السلاح النووي، هكذا عرفت نفسها وتعرفت عليها أجيال متعاقبة حول العالم، دولة شريرة مارقة تمثل ركناً أساسياً لأي محور شر على المستوى الدولي.
بعد اختلال كبير في موازين القوى الدولية قاده الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، وسمح من خلاله لكل الدول المعادية لأميركا وحلفائها بالظهور مجدداً على سطح الأحداث دولياً، من روسيا إلى كوريا الشمالية، ومن إيران إلى "الإخوان"، كان لزاماً على أميركا أن تعيد ترتيب التوازنات الدولية بالشكل الصحيح، وهي مهمة كبرى على طول التاريخ والجغرافيا، وهو ما تقوم به إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وحلفاء أميركا حول العالم. كان التصعيد الكوري الشمالي في السنة الماضية محاولة لاختبار عزيمة أميركا بالتهديدات لها ولحلفائها وبالصواريخ الباليستية طويلة المدى، وغيرها من الأساليب على الطريقة الكورية الشمالية المعروفة، ولكن الجواب هذه المرة جاء مختلفاً وصارماً وصادماً حيث أكدت الإدارة الأميركية عزمها الكبير على إخضاع كوريا الشمالية بكل القوة الممكنة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وكذلك بالضغط على حلفائها بكافة السبل، فكانت النتيجة إجبارها على تغيير توجهاتها المعادية للعالم وتغيير بوصلتها.
لا أحد يدري على وجه الدقة كيف يمكن لوقف إطلاق نار دام عقوداً طويلةً أن يتحول بين عشيةٍ وضحاها إلى عملية سلام وأمل، وهو ما سيتضح في المستقبل، ولكن هذا التوجه الجديد له هدف واحد هو سقوط النموذج الكوري الشمالي في الدولة المارقة على النظام الدولي.
في منطقتنا ظل النظام الإيراني يستلهم النموذج الكوري الشمالي ويعتبره ملهماً وقدوةً، مع مراعاة الفروقات بين النظامين، وبسقوط هذا النموذج سيتوجب على إيران السير منفردة في بناء نموذجها الخاص، مع كل المتغيرات الكبرى في مواجهة المشروع الإيراني الذي باتت تقوده أميركا ترامب، وانضمت لها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، وسبقتها السعودية وحلفاؤها في المنطقة، لا في الملف النووي واتفاق الخمسة زائد واحد فحسب، بل في كل ما يتعلق بالسياسات التخريبية الإرهابية الإيرانية من الصواريخ الباليستية إلى دعم استقرار الفوضى بالمليشيات والتنظيمات الإرهابية، والتدخل في شؤون الدول العربية مع كل ما يشمله ذلك من تفاصيل كثيرة ومؤثرة في أزمات المنطقة والعالم.
إذا تم النجاح في إسقاط النموذج الكوري الشمالي بشكل كامل؛ فإننا إزاء حقبة دولية جديدة في تاريخ العالم، وهو أمر لم يكتمل بعد، فهو ليس مثل سقوط جدار برلين الذي كان نتيجة، بل هو أمر برسم البناء والمتابعة والمراقبة، وأكثر المتضررين منه هو النظام الإيراني.
نقلا عن "الاتحاد"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة