موجات الغضب تنتشر من مكان إلى آخر وبشكل عفوي تلقائي من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب
مشكلة المحللين والمتابعين لما يجري في إيران حتى الآن هي قناعتهم بقدرة السلطات على قمع الشارع والقضاء على الاحتجاجات بالقوة، فالأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإيرانية تملك الكثير من الأوراق تحركها عند الضرورة؛ وهي بدأت تلوح في الأفق من خلال الترويج لضرورة ما تسميه "التصدي للفتنة"، و"الموت للعصيان"، وتبنيها لموقف أن ما يجري لا يختلف كثيراً عن انتفاضة عام 2009، ومصير المشهد اليوم سيكون هو نفسه قبل 7 أعوام، وقناعة أن ما عاشته المنطقة منذ عام 2011 كان كارثياً على شعوبها ودولها ولا أحد يبحث عن التغيير عبر الاحتكام إلى الشارع بعد الآن.
الحديث كان يدور حول صعوبة وجود قوة إقليمية قادرة على مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن والخليج، لكن المفأجاة كانت ظهور هذه القوة خلال ساعات فقط ومن الداخل الإيراني نفسه وبسبب أخطاء القيادات السياسية والدينية.
تواجه القيادات الإيرانية التظاهرات الشعبية بالقمع والتهديد والوعيد لكنها في الوقت نفسه تتحدث عن ضرورة التضامن والوحدة والتكاتف الوطني من أجل إحباط المؤامرات.
وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي، يقول إن أطرافاً خارجية تسعى لجعل إيران بلداً مضطرباً وغير آمن، وأن "الأعداء يبذلون قصارى جهدهم لتأجيج مشاعر الشعب الإيراني وتشجيعه على زعزعة الأمن في البلاد "، هو تشخيص يحتاج إلى جهد إضافي لإقناع البعض به وكأن إيران بعيدة جداً عن أسلوب صناعة الدسائس وفن التآمر والخداع في علاقتها مع الكثير من دول المنطقة.
الإعلام الرسمي بدأ يفتح الطريق أمام تحريك الدبابات وإنزال الوحدات الخاصة إلى شوارع المدن الرئيسية لمواجهة "مسلحين يندسون بين المتظاهرين، ويطلقون النار على الطرفين ويحاولون الاستيلاء على مخافر للشرطة وقواعد عسكرية"، مقدمات كلاسيكية معروفة تسبق اللجوء إلى تشريع القتل والإعدامات للذود عن أمن واستقرار البلاد!
الرئيس الإيراني حسن روحاني لجأ إلى أسلوب "ضربة على الحافر وأخرى على المسمار"، يحذّر من أن الشعب "سيرد على مثيري الاضطرابات ومخالفي القانون". لكنه يرى أن "الانتقادات والاحتجاجات فرصة وليست تهديداً، والشعب سيرد بنفسه على مثيري الاضطرابات". لا أحد يلتفت إلى ما يقول فالشعب يتحرك باستمرار في مدن جديدة وبشكل أوسع ولا يمكن أن يقبل بالعودة دون إيصال الرسالة هذه المرة، حتى ولو كانت التهمة "أعداء الثورة هم من يقودون المظاهرات" لمنح النظام ذريعة اللجوء إلى فعل ما يريد .
المتضامن الأول والوحيد حتى الآن مع إيران أصوات روسية بينها ما يقوله رئيس اللجنة الدولية في مجلس الاتحاد كونستانتين كوساتش، إن موجة الاحتجاجات في إيران هي مسألة داخلية "العوامل الاجتماعية الاقتصادية تؤثر على ما يجري، وإن لم تكن هذه العوامل هي الأسوأ في المنطقة"، رد تحية روسية لإيران بسب التضامن والتنسيق في سياسات إقليمية يتقدمها الملف السوري، لكنها لا تقنع الآلاف في الشوارع الذين يتساءلون عن أسباب التسريح اليومي للمئات من العمال وقرارات إشهار الإفلاس وعزوف المستثمرين عن تمويل مشاريع جديدة بسبب الخوف من أزمات مالية واقتصادية أكبر.
لم يعد يكفي النظام أن يتحدث عن موقع ودور إيران الإقليمي وضرورة التضامن لمواجهة الاستهداف عبر العقوبات الدولية وتقديم التضحيات لإنجاز مشروع الصعود النووي، فالشارع المنتفض لم يعد يريد الانحناء لشعارات وخطط تحرمه حريته وحقه في العيش الكريم باسم فتح الطريق أمام هيمنة الطبقة الدينية، وآيديولوجية الرد على الاستهداف بزيادة أرقام الإنفاق العسكري وتمويل بناء وتجهيز المزيد من المليشليلت المذهبية لتكون أذرع النظام في الداخل والخارج.
موجات الغضب تنتشر من مكان إلى آخر وبشكل عفوي تلقائي من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، وليس في المدن فقط بل في الأرياف حيث التهميش الاجتماعي والاقتصادي في ذروته في صفوف المجموعات العربية والكردية والأذرية والأرمنية، والمسألة بالنسبة لهم اليوم أبعد من أن تكون الاستجابة لتهديد ضابط أمن "تجمعكم غير قانوني، تفرّقوا وإلا سنتعامل معكم كمُخلين بالنظام العام".
النظام الإيراني لم يدرك بعد أنه يدفع ثمن أكثر من 3 عقود من الاستثمار في بناء معادلات أمنية إقليمية تقوم على سياسات التدخل في شؤون دول المنطقة، وتجاهله لحقيقة أنه كان وما زال يموّل في مشاريع التمدد والانتشار المذهبي العرقي في الخارج على حساب توفير الحياة الكريمة للمواطن الإيراني الذي يعرف أن ثروات بلاده تبدد في مجال ومكان لا علاقة له به.
كيف يتجرأ الشارع الإيراني على منازلة قوة دينية سياسية؟
الحديث كان يدور حول صعوبة وجود قوة إقليمية قادرة على مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن والخليج، لكن المفاجأة كانت ظهور هذه القوة خلال ساعات فقط، ومن الداخل الإيراني نفسه وبسبب أخطاء القيادات السياسية والدينية. الذي يراه من قرر النزول إلى الشارع من الإيرانيين اليوم هو قدرات البلاد وثرواتها تهدر في الخارج على حلم يدفع ثمنه المواطن من كرامته وأمنه ومعيشته.
الشارع الإيراني الذي أسقط حكم الشاه يقول لقياداته إن "علبة الباندورا" فُتحت ليس فقط بسبب الأخطاء والتجاوزات والتهميش، لكن هناك ما هو أكبر من ذلك، الفساد والاختلاس والسياسات الاجتماعية الفاشلة في الداخل، والثمن الباهظ الذي يدفعه المواطن الإيراني نتيجة رغبة البعض في التمدد والانتشار والتدخل في شؤون دول الجوار لإسقاط أنظمة وبناء أنظمة جديدة موالية على حساب خطط التنمية والعدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق الاجتماعية والطبقية وتحصين نفوذ أقلية عرقية أو مذهبية.
في العلن هي البطالة والفساد والتوزيع اللاعادل للثروات والغلاء، لكنها في الأصل هي غضبة المواطن بسبب سياسات الهدر والإنفاق لمليارات الدولارات تحت شعار التمدد والانتشار والهيمنة في دول المنطقة، ومشكلة انعدام الحرية الفردية والاعتقالات التعسفية اليومية لاتفه الأسباب وبمزاجية أجهزة تدعي حماية امن ومصالح البلاد ثم هي أيضا أزمة تقاسم النفوذ والثروات بين طبقة الملالي وبعض أصحاب المصالح ورجال الأعمال. وهي كذلك معاناة الأقليات المهمشة والمغبونة والمبعدة عن الإدارة والسلطة دينياً وعرقياً.
الشارع الذي رفع الستار عن المسرح الإيراني ليكشف كل عيوبه وأزماته ومشاكله هو ليس الشارع الذي تحرك عام 2009 فقط، الذي تقوله الآلاف هذه المرة يختلف عما رددته قبل 8 سنوات: تغيير القيادات السياسية والحكومية، إعادة الجنود والمليشيات من الخارج بناء نظام اجتماعي اقتصادي حياتي جديد، والأهم ربما هو مطلب إسقاط الأقلية الدينية التي تقود باسم نظام الملالي.
السلطات الإيرانية قد تنجح في قمع التظاهرات وإخمادها، والظاهر أنها تستجيب لمطالب المحتجين، والتخلي عن بعض سياسات التقشف أو زيادة الأسعار في محاولة لشراء الوقت، لكن الذي يتقدم على الأرض حتى الآن هو موجات الغضب المتواصلة في المدن الإيرانية، وهي تنتشر وتزحف من مكان إلى آخر، وحقيقة أن الدماء التي تُراق وحملات الاعتقالات لا تخيف من قرر النزول إلى الشارع من أجل حياة كريمة له ولأسرته، سرقتها أقلية من السماسرة ومجموعة من المغامرين تحت شعار إيران تقود في المنطقة.
أخطر أساليب الرد التي قررتها القيادة الدينية هي رمي الكرة في ملعب "نظرية المؤامرة" وتحميل المسؤولية للخارج الذي يريد الإطاحة بالنفوذ والدور الإيراني الإقليمي والإعلان عن ضرورات الرد عبر تحريك ما أسمته بالشارع المضاد في إيران، والتلويح بجهوزية "الحرس الثوري" للتدخل، كلا الخيارين قد ينجح في قمع المحتجين لكن ارتدادات النتيجة على الداخل والخارج الإيراني هي التي ينبغي أن تُحسب جيدا.
كل التوقعات والسيناريوهات محتملة بعد الآن، لكنها تلتقي جميعها عند حقيقة أن القضاء على العصيان المدني لن يتم دون ثمن باهظ يُدفع، اين وكيف سيكون؟ لا أحد يعرف بعد، انقلاب المؤسسة الدينية على بعضها، انقلاب العسكر على رجال الدين، اصطفاف المؤسسة العسكرية إلى جانب الشارع في المواجهة مع نفوذ الآلة الدينية الإيرانية ليس مستبعداً أيضاً، حتى الآن الأمور تتقدم نحو زحف الجماهير لاسترداد ما فقدته منذ سنوات طويلة وأن فرصة الرد الوحيدة بيد السلطة الحاكمة هي إنزال المليشيات وتحريك المصفحات في مواجهة المدنيين الذين يرفعون رايات التغيير والإصلاح، لكن مشكلة الحكم، أن الذين يتظاهرون هم مجموعات تمثل شرائح المجتمع الإيراني العرقي والديني واللغوي، وأن قمعهم سيقحم البلاد في أزمة سياسية وأمنية واجتماعية أكبر، البعض في تركيا مثلا بدأ يتخوف من تفشي الأحداث وتطورها فهو لا يريد أن يرى مئات الآلاف من اللاجئين الإيرانيين هذه المرة على الحدود التركية الإيرانية، القيادة في طهران لا يمكنها أن تتجاهل سيناريوهات أكثر سوداوية من هذا النوع.
السلطات الدينية والسياسية الإيرانية ستتحرك بشكل مكثف متعدد الأوجه لاسترداد السيطرة على الشارع وضبطه، وهي حتى لو نجحت عبر استخدام القوة في إنجاز ذلك فإنها ستجد نفسها جالسة فوق بركان ثائر يهدد كل لحظة بالانفجار، القيادة الإيرانية أمام خيارات محدودة، أما إعلان حالة الطوارئ والرد باستخدام القوة وإنزال الباسيج والمغامرة بتحمل النتائج مهما كانت مكلفة، أو الإصغاء إلى ما يقوله ويطالب به الآلاف بتغيير جذري حقيقي شامل في سياسات إيران الداخلية والخارجية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة