الإدارة الأمريكية أدركت مؤخرا حقيقة أن خطر إيران في مشروعها التوسعي وليس فقط في برنامجها النووي.
يدرك كل متابع للشأن الإيراني أن إيران تعيش الآن أياما صعبة ولحظة مفصلية في عمر نظامها السياسي، لحظة ربما لم يعان نظام الملالي مثلها منذ نشأته في عام 1979، فعلى الرغم من تعدد اللحظات الصعبة التي عاشها هذا النظام منذ نشأته، والأزمات التي أدخل نفسه فيها وأدخل معه المنطقة طرفا فيها، إلا أن أيا منها لا يمكن مقارنته مع ما تعيشه إيران هذه الأيام، فحتى أصعب الاختبارات التي خاضها هذا النظام قبل نحو ثلاث عقود إبان حربه مع العراق، إلا أنه لم يكن بهذا القدر من العزلة دوليا، ولا المقاطعة إقليميا، ولا جبهته بهذا القدر من التفكك داخليا، فقد كانت هناك قوى كبرى تدعمه سرا وعلنا، بعضها يناصبه العداء حاليا، وكانت الجبهة الداخلية أكثر تماسكا مما هي عليه الآن، وكانت معظم قوى الشعب الإيراني تصطف خلفه لا تتظاهر ضده كما هو الوضع حاليا، لعل ذلك ما مكن هذا النظام من تجاوز تلك الأزمة وغيرها من الأزمات التي نتجت عن تهور السلوك وأطماع التوسع وطموح الهيمنة.
سيترقب العالم نوفمبر المقبل، موعد فرض واشنطن الحزمة الثانية والأكثر إيلاما من العقوبات، والتي ستشمل فرض عقوبات شاملة على قطاع الطاقة الإيراني، خاصة صادرات قطاع النفط الذي يمثل نحو 65% من إيرادات نظام طهران
الآن يبدو الوضع مختلفا.. بل مناقضا، دوليا وإقليميا وداخليا، سياقات ثلاث تعمل في تناغم شديد وربما تنسيق بهدف تغيير سلوك النظام الإيراني وإعادة ضبط بوصلته، فداخليا تعيش إيران على وقع مظاهرات وحراك شعبي لم ينقطع منذ ديسمبر الماضي؛ احتجاجا على تردي الأوضاع المعيشية للشعب الإيراني بشكل غير مسبوق وانتهاك حقوقه السياسية، هذه المظاهرات كشفت عن مدى هشاشة النظام الإيراني وعدم استعصائه على التغيير، هذه الاحتجاجات تجددت مرة أخرى في يونيو الماضي ولا تزال مستمرة حتى الآن وبشكل ربما أكثر خطورة، لأنها كشفت أن النظام الإيراني بدأ في فقدان قاعدة مؤيديه الرئيسية وهي مؤسسة البازار التي لعبت دورا بارزا في تقييد النظام الملكي ثم إسقاطه بفعل تحالفها مع مؤسسة رجال الدين، وجنت بسبب ذلك مكاسب سياسية كبيرة بعد الثورة، تمثلت في تولي كثير من رموزها مناصب سياسية واقتصادية وبرلمانية بارزة، ولكن منذ أن عززت الشركات التابعة للحرس الثوري نفوذها في الاقتصاد الإيراني منذ عام 2008 ومكاسب وامتيازات هذه الطبقة أصبحت محل تهديد.
فشهدت أسواق طهران وأصفهان عامي 2009 و2010 إضرابات وإغلاقا للمحلات احتجاجا على فرض ضرائب إضافية على دخل تجار البازار، واستمرت هذه الاحتجاجات بشكل متقطع حتى عام 2012 إلى أن عادت في يونيو الماضي في البازار بالعاصمة طهران، احتجاجات ندد خلالها مئات التجار الغاضبين بالانخفاض الحاد في قيمة العملة الإيرانية، لكنها سرعان ما اكتسبت طابعا سياسيا بعد أن ردد المتظاهرون شعارات مناهضة لخامنئي وروحاني ووصفوهما باللصوص وطالبوهما بالتنحي عن السلطة.
ودوليا، وهذا هو السياق الأهم، انتهجت الولايات المتحدة الأمريكية منذ وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في البيت الأبيض سياسة حازمة حيال إيران، بدأت بتهديد ووعيد وحرب كلامية وترجمت أخيرا في شكل إجراءات محددة، كان أولها إعلان واشنطن انسحابها الأحادي من "صفقة" الاتفاق النووي مع إيران في مايو الماضي، ثم إعلانها بعد أسبوع من ذلك أنها بصدد تشكيل "تحالف دولي ضد إيران وأنشطتها المزعزعة للاستقرار"، وقبل أن ينقضي نفس الشهر كان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يلقي خطابة الأول حول السياسة الخارجية الأمريكية منذ توليه منصبه، وهو خطاب خصص معظمه لإيران وأعلن خلاله عن قائمة من 12 مطلباً وضعتها بلاده واشترطت على إيران الالتزام بها قبل تطبيع العلاقات معها، وكان ملفتا في قائمة المطالب هذه إلى أن البرنامج النووي لإيران لم يستحوذ سوى على 3 بنود فقط تعلقت بوقف تخصيب اليورانيوم وتقديم تقرير لوكالة الطاقة الذرية حول البعد العسكري للبرنامج، ومنح مفتشي الوكالة إمكانية الوصول إلى كل المواقع في البلاد.
فيما ركزت 9 بنود على سلوك إيران المزعزع لأمن واستقرار المنطقة ودورها في تأجيج صراعات الشرق الأوسط وتهديد أمن واستقرار دول الجوار، وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وهنا يمكن استنتاج أن الإدارة الأمريكية أصبحت لديها أخيراً رؤية شاملة لطبيعة الخطر الإيراني تتجاوز موضوع الملف النووي إلى جميع تجليات السلوك الإيراني العدائي في المنطقة كتدخله في شؤون دول المنطقة، وتهديده أمن الحلفاء التقليديين لواشنطن، ودعمه مليشيات مسلحة وجماعات إرهابية، وهو ما يعني أن الإدارة الأمريكية أدركت مؤخراً حقيقة أن خطر إيران في مشروعها التوسعي وليس فقط في برنامجها النووي، وهذا ما يفسر سعي واشنطن حالياً لصياغة مقاربة شاملة تتعامل مع المشروع الإيراني برمته وليس فقط مع تجلياته النووية، ولهذا لم تكتفِ واشنطن بالانسحاب من الاتفاق النووي لكنها أتبعت ذلك بخطوات أكثر أهمية، كان آخرها خطوتين مرتبطتين هما الأبرز حتى الآن، أولهما إعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران بدءا من السابع من أغسطس الجاري، وهي عقوبات استهدفت بالأساس مشتريات إيران في قطاع السيارات والنقل فضلًا عن نشاطاتها التجارية ومشترياتها من الذهب والمعادن الأساسية الأخرى، عقوبات لم تقو معظم الشركات الأوروبية الكبرى على مقاومتها كما كانت تأمل طهران، فتوالت انسحاباتها من السوق الإيرانية وكان أخرها شركتا الاتصالات "دويتشه تيليكوم" و"دويتشه بان" الألمانيتان، وقبلهما كانت مجموعة شركات "دايملر" أعلنت تعليق العمل في إيران بسبب فرض العقوبات الأمريكية، لتلحق الشركات الثلاث بأكبر شركة في أوروبا في مجال الهندسة الكهربائية والإلكترونية الحديثة "سيمنز" التي أعلنت من قبل إنهاء مصالحها التجارية في إيران، لتنضم الشركات الألمانية الأربع العملاقة إلى نظيراتها الفرنسية والدنماركية التي سبق وأعلنت انسحابها من السوق الإيرانية عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي تجنبا للعقوبات الأمريكية والتي كان أبرزها شركتي توتال وميرسك.
الخطوة الأخرى التي اتخذتها واشنطن تمثلت فيما أعلن عنه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الخميس الماضي من تشكيل مجموعة عمل خاصة لتنسيق وإدارة السياسة الأمريكية تجاه إيران، من أجل التصدي لأنشطتها الخبيثة في المنطقة، وسيقود هذا الفريق استراتيجية "الضغوط القصوى" دبلوماسيا واقتصاديا التي تتبعها واشنطن لتغيير سلوك طهران، ويشمل ذلك فرض عقوبات محتملة على دول أخرى تقوم بمبادلات تجارية مع طهران، وسيرأس المجموعة بريان هوك الذي سيكون الممثل الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية حول ايران، و"هوك" يتماشى في خطه السياسي وتوجهاته في السياسة الخارجية مع توجهات ترامب وبومبيو، لا سيما حيال الملف الإيراني، ويشغل حاليا منصب مدير دائرة التخطيط السياسي في وزارة الخارجية، وكان ترامب اختاره لقيادة جهود حشد دعم حلفاء الولايات المتحدة لقرار الانسحاب من الاتفاق النووي في مايو الماضي، وقال "هوك" خلال الإعلان عن مجموعة العمل "هذا الفريق ملتزم بجهد دولي قوي لتغيير سلوك النظام الإيراني"، داعيا دول العالم إلى التجاوب مع العقوبات الأمريكية ضد إيران.
الإدارة الأمريكية لم تكتف في مواجه النظام الإيراني بتضييق الخناق عليه اقتصاديا فقط بإعادة فرض العقوبات، لكنها تسعى أيضا إلى تفكيك تحالفاته الدولية الراسخة التي يتحصن خلفها ويستقوى بها في ممارسة أطماعه التوسعية، فهناك جهود أمريكية واضحة لخلخلة التحالف الروسي الإيراني، وإغراء موسكو بالابتعاد عن طهران، على الأقل في سوريا، وهي جهود يقودها ترامب شخصيا، وتجلت في القمة التي جمعته مع نظيره الروسي فلاديمنير بوتن في هلسنكي في يوليو الماضي، ووفقا لمسؤولين بالإدارة الأمريكية فإن الرئيسين متفقان مبدئيا على ضرورة خروج الإيرانيين من سوريا، وهناك حديث ع أن مستشار الرئيس دونالد ترامب للأمن القومي سيبحث مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف في جنيف الأسبوع المقبل دور إيران في سوريا وإمكانية وكيفية خروجها من هناك، وهو أمر لو تم فسينبئ عن تحول كبير في المشهد الإقليمي، وسيقلص بشكل ملحوظ من مساحة النفوذ الإقليمي لإيران، خاصة إذا أضفنا إلى هذا المشهد صور المتظاهرين العراقيين وهم يحرقون صور الخميني وخامنئي في شوارع العراق بعد أن أدّى فوز كتلة مقتدى الصدر -المعروفة برفضها التواجد الإيراني- في الانتخابات البرلمانية العراقية التي أجريت في مايو الماضي إلى زيادة الأصوات الشعبية العراقية الرافضة للتواجد الإيراني في البلاد.
في النهاية يمكن القول إنه رغم صعوبة اللحظة التي يعيشها النظام الإيراني داخليا وإقليما ودوليا، إلا أن الأصعب لم يأت بعد، فداخليا لا يزال الحراك الشعبي مستمرا ضد النظام الإيراني وممارساته، والسخط يزداد يوما بعد يوم ورقعة الاحتجاجات تتسع، والدعم الخارجي للمعارضة الإيرانية أصبح ملحوظا، وإقليميا فإن محاولات تقليص النفوذ الإيراني مستمرة ويبدو أن أقرب حلفائه في طريق التخلي عنه والأصوات الرافضة لوجوده في العراق وسوريا تزداد كل يوم، ودوليا لا يزال في جعبة الولايات المتحدة الكثير، وبالتأكيد سيترقب العالم نوفمبر المقبل، موعد فرض واشنطن الحزمة الثانية والأكثر إيلاما من العقوبات والتي ستشمل فرض عقوبات شاملة على قطاع الطاقة الإيراني، خاصة صادرات قطاع النفط الذي يمثل نحو 65% من إيرادات نظام طهران، وفرض عقوبات ضد الشركات التي تدير الموانئ الإيرانية، إلى جانب الشركات العاملة في الشحن البحري وصناعة السفن، وفرض عقوبات على البنك المركزي الإيراني وتعاملاته المالية، عقوبات لو نجحت أمريكا في تطبيقها، فلن يبقى أمام النظام الإيراني سوى خيارات محدودة جدا وعالية التكلف للتعامل معها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة