يتناسى العديد من المسؤولين الأتراك تصريح الرئيس ترامب قبل عدة أشهر أن "العلاقات مع تركيا لم تكن أفضل مما هي عليه الآن".
منذ نحو عامين، وتحديدا بعيد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في تركيا انتقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى خط قومي أكثر تشددا في سياساته الخارجية، وبدأ يتحدث عن "قوى خارجية" تستهدف تركيا وتريد "تركيعها"، مطالبا الشارع بالوقوف معه ضد هذه "المؤامرات الخارجية"، وساعده هذا التوجه في الفوز في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. لم يفصح أردوغان صراحة عن هوية تلك القوى العدوة لتركيا، فتارة يتحدث عن "لوبي الفائدة" الذي يسعى لرفع سعر الفائدة في تركيا من أجل التكسب من إيداعاته البنكية، وتارة يتحدث عن "العقل المدبر" وفي حالات نادرة كان يوجه كلامه "للغرب"، فدخل في عدة سجالات مع زعماء أوروبيين قبل أن يصل إلى أزمة حقيقية مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
علينا ونحن نتابع تطورات الأزمة بين أنقرة وواشنطن أن نستذكر ما حصل خلال أزمة تركيا مع روسيا سابقا وبين تركيا وألمانيا أيضا، وهي أزمات مشابهة سمعنا خلالهما تصريحات مشابهة عن "تركيا المستهدفة" التي انتهت بصفقات سياسية، لم يكن لتركيا فيها اليد العليا
لكن أردوغان لم يفصح حتى الآن عن "ماذا تريد تلك القوى من تركيا؟" وما الذي إن فعلته تركيا ستكون قد خضعت أو "ركعت" أمام تلك القوى؟! والسؤال المطروح الآن: هل من فائدة تجنيها الدول الأوروبية أو أمريكا من الأضرار بتركيا أو باقتصادها؟
إن مراجعة سريعة لعلاقات حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا مع الغرب تظهر بوضوح أن هذا الغرب كان الحليف والداعم الأكبر لتركيا والحزب خلال فترة حكمه لتركيا. بل إن القصة بدأت قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فالرئيس الأمريكي بيل كلنتون ساعد تركيا بالضغط على الاتحاد الأوروبي لقبولها كمرشح للعضوية في الاتحاد عام 1999، كما أنه هو من سلم تركيا أكبر أعدائها عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني على طبق من فضة على أمل في أن يساعد تركيا في حل أكبر مشاكلها الداخلية ألا وهي القضية الكردية. وعندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم خريف عام 2003 ضغطت واشنطن على الجيش التركي كي لا يتدخل ويقصي الحزب عن الحكم، على اعتبار أن الجيش التركي حينها كان وصيا على العملية السياسية ولم يكن يثق بحزب العدالة والتنمية ويعتبره حزبا إسلاميا يهدد النظام العلماني، كما استمر الدعم الأمريكي والأوروبي لتركيا خلال مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي بشكل كبير خلال الفترة بين 2003 و2010، وحينها حققت تركيا نموا اقتصاديا كبيرا واستقرارا سياسيا بفضل تطبيق إصلاحات الاتحاد الأوروبي في ملفات الحريات وحقوق الإنسان، بل إن الضغط الأمريكي والأوروبي هو الذي ساعد حزب العدالة والتنمية في تخطي أزمة رفع المحكمة الدستورية العليا -بدعم من الجيش- قضية حل الحزب بتهمة "توجهاته المعادية للعلمانية" عام 2008. وتخلت واشنطن بعد ذلك عن الجيش -حليفها الأهم في تركيا- إرضاء لحكومة العدالة والتنمية ولم تعلق على قضايا "المخططات الانقلابية" التي ساعدت حكومة العدالة والتنمية على إخضاع الجيش لسيطرتها خلال 2007 إلى 2012، والتي ظهر بعد ذلك أنها قضايا ملفقة ولا أساس لها. وبلغ الدعم الأوروبي والأمريكي لحزب العدالة والتنمية ذروته خلال ما سمي بالربيع العربي.
كل هذا الدعم السياسي والاقتصادي الذي قدمه الغرب، يتناساه المقربون من حزب العدالة والتنمية الحاكم خلال تصريحاتهم اليوم بأن الغرب لا يريد لتركيا أن تكون قوية لأنها دولة إسلامية، وكأن تركيا في السابق لم تكن دولة إسلامية عندما قدم لها كل هذا الدعم الذي ساعدها على تبوء مكانتها القوية والمؤثرة في محيطها اليوم. والأغرب تصريحات بعض المسؤولين الأتراك الذين يقولون "إن الدور سيأتي على تركيا" في إشارة إلى ما حدث خلال "الربيع العربي" من تفكك لدول عربية، وأن الغرب يريد تقسيم تركيا. علما بأن موجات الهجرة التي نتجت عن "الربيع العربي" في ليبيا وسوريا أصابت الاتحاد الأوروبي في مقتل وكانت دافعا لخروج بريطانيا من الاتحاد، وانتشار الخلاف بين دوله على توزيع حصص استضافة اللاجئين، فكيف يعقل أن يسعى الاتحاد الأوروبي أو دوله إلى خلق أزمة جديدة في تركيا ذات 80 مليون نسمة، قد تؤدي إلى هجرة الملايين من الأتراك إلى أوروبا في حال أصاب عدم الاستقرار تركيا؟ كما أن أمريكا والرئيس ترامب بأمس الحاجة إلى تركيا قوية ومتماسكة من أجل استكمال حربها على داعش في المنطقة، وتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة.
في المقابل يتناسى كثيرون أن حكومة العدالة والتنمية خذلت واشنطن في محاولاتها الضغط على إيران خلال مفاوضاتها معها حول ملفها النووي الذي تقول أنقرة إنه يمثل تهديدا لها هي أيضا، واتضح أن حكومة العدالة والتنمية سمحت لطهران بالتهرب من العقوبات الأمريكية من خلال رجل الأعمال رضا صراف الذي حوكم في نيويورك. كما أن اتهامات حكومة العدالة والتنمية لواشنطن بدعم الأكراد في سوريا بشكل يهدد أمن تركيا، يتجاهل حاجة واشنطن لقوات على الأرض تقاتل داعش في سوريا بعدما رفضت الفصائل المسلحة العربية -المحسوبة على تركيا- قتال داعش هناك، علما بأن واشنطن لم تتدخل لمنع عملية دخول الجيش التركي إلى عفرين الكردية في شمال سوريا، وطردت القوات الكردية من منبج بناء على طلب أنقرة، وأعلنت أنها ستنسحب من شمال سوريا بعد عدة أشهر، مما يجعل دعم واشنطن للمسلحين الأكراد هناك مؤقتا زمنيا، والأهم، أن أنقرة لا توجه أي اتهامات في هذا الإطار إلى موسكو، التي أعلنت أكثر من مرة إصرارها على مشاركة الأكراد في لجنة وضع الدستور السوري الجديد ودعمت مطالبهم بالحكم الذاتي -وهو أخطر على تركيا- في مسودة الدستور الذي قدمته.
كما يتناسى العديد من المسؤولين الأتراك تصريح الرئيس ترامب قبل عدة أشهر أن "العلاقات مع تركيا لم تكن أفضل مما هي عليه الآن"، واهتمام ترامب بالرئيس أردوغان أثناء قمة الناتو في بروكسل يونيو الماضي وعقده اجتماعا مغلقا معه لم يحضره سوى المترجم كدليل على رابط الثقة الذي يجمع بين الرجلين.
قيادات حزب العدالة والتنمية نفسها لها عدة تصريحات قبل أن تصل إلى السلطة ترفض فيه "نظرية المؤامرة على تركيا من قبل الغرب" وأن الغرب يستهدف تركيا لأنها دولة إسلامية. كما تتجاهل قيادات الحزب الحاكم في تركيا ما أظهرته من تفاؤل بوصول ترامب إلى الحكم، وتعليقات الصحف الموالية لها حتى أشهر قليلة عن "عمق العلاقات الاستراتيجية بين البلدين"، وكيف أن ترامب كان يكبح هجوم الكونجرس على تركيا حتى وقت قريب.
نعود إلى سؤالنا الأول، ما الذي تريده واشنطن من تركيا وتعتبره أنقرة محاولة "لتركيعها"؟ إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون؟ ألم يكن الرئيس أردوغان هو من عرض الإفراج عنه في صفقة سياسية بعد اعتقاله بيومين فقط؟ ألم يعرض ترامب إطلاق سراح نائب مدير بنك الخلق التركي هاكان اتيلا المتهم بمساعدة إيران في التحايل على العقوبات الأميركية، وتخفيض العقوبة المالية على البنك في مقابل إطلاق سراح القس؟ وسواء انفجرت الأزمة بسبب مطالبة أنقرة بما هو أكثر من ذلك، أو بسبب سوء تفاهم بين الزعيمين التركي والأمريكي حول شروط الصفقة، فإن ذلك لا يبرر كل ما هو جار من حديث عن "مؤامرات أمريكية لتركيع تركيا".
قلت في مقال سابق أن الأزمة مع واشنطن يتم استغلالها في أنقرة من أجل التغطية على فشل الحكومة في إدارة الاقتصاد، وتعليق سبب الأزمة الاقتصادية التي تنبأ بها الجميع مسبقا على شماعة التهديدات الأمريكية. فتركيا رغم كل العقوبات والعقوبات المضادة لم تسحب سفيرها من واشنطن، كما أن العلاقات العسكرية ما زالت في أعلى مستوى بين البلدين، وهذا دليل على أن الأزمة "ظاهرية" وليست حقيقية بين البلدين، وإنما هي معركة كسر عظم بين الرئيسين أردوغان وترامب بسبب فشلهما في إدارة التفاوض على صفقة إطلاق سراح القس الأمريكي، والمسؤولون في كلا البلدين يتبعون تصريحات التهديد بالعقوبات بجمل تتحدث عن رغبة في حل هذه الأزمة. علينا ونحن نتابع تطورات الأزمة بين أنقرة وواشنطن أن نستذكر ما حصل خلال أزمة تركيا مع روسيا سابقا وبين تركيا وألمانيا أيضا، وهي أزمات مشابهة سمعنا خلالهما تصريحات مشابهة عن "تركيا المستهدفة" والتي انتهت بصفقات سياسية، لم يكن لتركيا فيها اليد العليا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة