تنظيم الحمدين يفاقم من مأزق قطر ويعمّق من عزلتها الإقليمية والدولية، لأنه يتمادى في سياساته المثيرة للجدل والقلق معاً.
لا يمكن فهم القرار الذي اتخذه أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني مؤخراً بدعم تركيا عن طريق ضخ استثمارات مباشرة بقيمة 15 مليار دولار، لمساعدتها على تجاوز أزمة انهيار قيمة عملتها "الليرة" في الأيام الأخيرة، بمعزل عن ارتهانها الكامل لأنقرة، واستجابتها للضغوط التي مورست عليها من جانب أوساط سياسية وإعلامية تركية في الآونة الأخيرة، والتي طالبت تنظيم الحمدين بدفع ثمن حمايته والوقوف معه في الأزمة مع دول المقاطعة، حتى أن صحيفة "تقويم" التركية وجهت انتقادات صريحة للدوحة في مقال افتتاحي حمل عنوان "أي نوع من الصداقة هذا؟" عبرت خلاله عن استيائها من الصمت القطري وعدم التحرك لإنقاذ الليرة التركية من الانهيار، بعد أن فقدت نحو 40% من قيمتها منذ مطلع العام الجاري.
مَن يدفع جزية تقدر بـ15 مليار دولار تحت مسمى "استثمارات"، سيكرر ذلك مرات أخرى كلما تعرض للمساومة والابتزاز من قبل من يقدمون له الحماية، ولهذا ليس من المستبعد أن يقدم نظام الحمدين لإيران "جزية مماثلة" في المدى القريب
تنظيم الحمدين يدفع الآن ثمناً باهظاً جراء سياساته الخاطئة ورهاناته الخاسرة في الاستقواء بتركيا وإيران، لقد كان يتصور أن دعم الدولتين له كفيل بتجاوز الأزمة مع الرباعي العربي، والتهرب من تنفيذ مطالبها الخاصة بوقف دعم التطرف والإرهاب، بدعوى التمسك بالسيادة الوطنية، لكنه الآن يتخلى عن هذه السيادة طواعية، وينحاز لأنقرة في مواجهة الإجراءات الأمريكية الأخيرة، ليؤكد أن ادعاءاته الخاصة باستقلالية القرار والسيادة الوطنية ليست سوى شعارات جوفاء، وأنه كي يحافظ على وجوده لا يمانع في الارتهان الكامل للسياسة التركية، وتوظيف منابره الإعلامية في الدفاع عنها حتى لو كانت تتعارض مع مقتضيات الأمن القومي الخليجي والعربي بوجه عام.
التحرك القطري لدعم الاقتصاد وإنقاذ "الليرة" التركية ليس الأول ولن يكون الأخير، لأن تنظيم الحمدين يدرك – وإن كان يخفي ذلك – أن ثمن حمايته سيكون مكلفاً للغاية، وإذا ما أراد الحفاظ على تماسكه وحماية أركانه في الداخل فإن عليه أن يدفع "الجزية" لتركيا كي تستمر في ممارسة هذا الدور، مجملاً ذلك بشعارات من قبيل "التضامن مع الأصدقاء، ودعم اقتصاد الدول الإسلامية".
تنظيم الحمدين يفاقم من مأزق قطر ويعمّق من عزلتها الإقليمية والدولية، لأنه يتمادى في سياساته المثيرة للجدل والقلق معاً، والتي تؤكد يوماً بعد الآخر أنه نظام يفتقد النضج السياسي والرشادة في التعامل مع تطورات وقضايا المنطقة والعالم، فمن يدفع جزية تقدر بـ15 مليار دولار تحت مسمى "استثمارات"، سيكرر ذلك مرات أخرى كلما تعرض للمساومة والابتزاز من قبل من يقدمون له الحماية، ولهذا ليس من المستبعد أن يقدم نظام الحمدين لإيران "جزية مماثلة" في المدى القريب تحت أشكال مختلفة من قبيل "الاستثمارات المشتركة، وتدشين المشروعات المشتركة"، خاصة بعد أن دخلت العقوبات الأمريكية الجديدة التي فرضتها إدارة الرئيس دونالد ترامب على إيران حيز التنفيذ في شهر أغسطس الجاري، والتي تستهدف بالأساس احتواء خطرها وتحجيم نفوذها في المنطقة، نتيجة لعدم التزامها ببنود الاتفاق النووي مع مجموعة(5-1) والتي دفعت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من هذا الاتفاق في شهر مايو الماضي.
تنظيم الحمدين الذي لا يجد أي غضاضة في إهدار عشرات المليارات من الدولارات لشراء ثمن الحماية التركية والإيرانية، يضع نفسه في مواجهة مع الولايات المتحدة، لأنه يتيح نافذة للدولتين للالتفاف على الإجراءات الأمريكية الأخيرة، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار حقيقة أن التحرك القطري الأخير لإنقاذ الليرة التركية جاء في أعقاب قيام إدارة ترامب بفرض عقوبات على وزراء في حكومة أردوغان، وبعد مضاعفة الرسوم على الصلب والألومنيوم التركي. فيما تواصل الحكومة القطرية علاقاتها الاقتصادية القوية مع إيران، ولا يستبعد أن تضخ مليارات الدولارات في الفترة المقبلة في محاولة لمساعدتها على تجاوز الآثار المحتملة للعقوبات الأمريكية الجديدة، الأمر الذي يؤكد بوضوح أن تنظيم الحمدين – من خلال دعمه المالي للدولتين- يسهم في زعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي، بعدما كشفت تطورات الأحداث الأخيرة أن طهران وأنقرة تقفان وراء تعقد أزمات المنطقة، فالأولى تمتلك مشروعاً للتمدد الإقليمي، يقوم على توظيف الطائفية وتسليح المليشيات المسلحة في العديد من دول المنطقة، بينما الثانية تسعى في ظل سياسات أردوغان إلى تحقيق حلمها بعودة الإمبراطورية العثمانية، أي أن تنظيم الحمدين بات يدور في فلك هذين المشروعين اللذين يمثلان تهديداً حقيقياً وواقعياً للمصالح الخليجية والعربية، فضلاً عما يثار عن علاقاتهما بالعديد من التنظيمات المتطرفة والإرهابية في المنطقة.
ما يجمع تنظيم الحمدين بكل من أنقرة وطهران هو البرجماتية أو بالأحرى "الانتهازية السياسية"، فتركيا التي انحازت لقطر في بداية الأزمة مع الرباعي العربي تجني الآن هذا الثمن (الجزية) مليارات من الدولارات على أمل أن تتخطى سريعاً الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تواجهها، أما إيران فإنها تعول أيضاً على قطر في تجاوز العقوبات الأمريكية الجديدة، وفي تنفيذ مخططاتها التخريبية في المنطقة، وتوظيف منابرها الإعلامية ، المقروءة والمرئية والمسموعة، في الدفاع عن سياساتها وتحميل الرباعي العربي مسؤولية استمرار الأزمات والصراعات الراهنة، لهذا فإن الشعارات التي يروجها تنظيم الحمدين في خطابه السياسي من قبيل "التمسك بالسيادة، واستقلال القرار الوطني، وعدم الرضوخ لأي إملاءات خارجية"، لن تنطلي على أحد من أبناء الشعب القطري الشقيق ولا الشعوب الخليجية والعربية مجتمعة، لأن الحقائق والمعطيات التي تتكشف يوماً بعد الآخر تثبت ارتهان تنظيم الحمدين بالسياستين التركية والإيرانية، وتبعيته لهما في مختلف قضايا المنطقة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة