الاعتراف الإيراني بالإجماع، عسكريوه ومدنيوه، يمثل انعكاسا دقيقا لمرحلة اضطراب تعصف بذهنية أركان الحكم دون استثناء
كثيرةٌ هي العبر والدلالات التي يمكن استخلاصها من اعتراف أحد أجنحة الحرس الثوري الإيراني إسقاط طائرة مدنية بعد لحظات من إقلاعها من مطار إيران الدولي بصرف النظر عن الدوافع والحجج التي ساقوها.. بعد الحادثة تناوب المسؤولون الإيرانيون على إطلاق المواقف بإنكار يتجاوز حدود المنطق وسقف العقل، إنكارٌ استدرج إلى الذاكرة مقولة "كاد المريب أن يقول خذوني".
هل يمكن التسليم بأن الاضطراب والتوتر والتشويش الشخصي لدى المسؤول المناوب هو من يقف وراء قرار ضرب طائرة مدنية وإزهاق أرواح عشرات الناس؟ ولو سلّمنا بهذا الاستنتاج من باب الجدل؛ ألا يعكس ذلك خللاً عميقاً في ذهنية مجمل أركان الحكم الإيراني؟
قبل مواجهتهم الحقائق بالصوت والصورة، وقبل اعترافهم بحقيقة الإسقاط العمد لطائرة مدنية، تناوب أركان النظام وتلوّنوا على مدى ساعات في مواقفهم متناغمين مع ذهنية المراوغة التي تطبع سلوك سياسييهم وقادتهم، ساعين إلى طمس الحقائق باحتجاز الصندوقين الأسودين للطائرة، ثم تجميع فتات وشظايا الطائرة المنكوبة من مكان سقوطها، وكذا الحال بالنسبة لجثث الضحايا وتنظيف المكان.
الاعتراف فجّر أسئلةً عميقة ومتعددة في سياق محاولة الإحاطة ولو بقدر يسير بظروف وبواعث ومرامي منفذي الحادثة: لماذا استُهدفت الطائرة المدنية بعيد إقلاعها ببضع دقائق وفوق الأراضي الإيرانية؟ النسبة الأكبر لجنسيات الركاب كانت من التابعية الإيرانية، هل يمكن الركون إلى الادعاء بأن خطأً بشرياً سبّب الكارثة وحسب، ولا دوافع أخرى؟ هل اتخاذ قرار بهذه الخطورة يتم فعلاً على مستوى قائد مناوب من رتبة صغيرة يجلس خلف منصة إطلاق صواريخ بالستية؟ إذا كان الأمر كما يدعي المسؤولون الإيرانيون وهو الاشتباه بأنه صاروخٌ أمريكي من طراز كروز؛ فكيف يكون الصاروخ "المعادي" في حالة إقلاع نحو الفضاء الخارجي ومن داخل الأراضي الإيرانية وليس العكس تماماً كما يقتضي المنطق بأن يكون الصاروخ إما في حالة انقضاض على الهدف، أي في وضعية نزول، أو على الأقل يكون في حالة أفقية؟
هل يمكن التسليم بأن الاضطراب والتوتر والتشويش الشخصي لدى المسؤول المناوب هو من يقف وراء قرار ضرب طائرة مدنية وإزهاق أرواح عشرات الناس؟ ولو سلّمنا بهذا الاستنتاج من باب الجدل؛ ألا يعكس ذلك خللاً عميقاً في ذهنية مجمل أركان الحكم الإيراني؟
أسئلة لا تنتهي حتى بطرح سؤال بصبغة سياسية وهو: هل تعمّد الإيرانيون إسقاط الطائرة المدنية كخيار أخير، أو انتحاري، للتخلص أو لطمس حقيقة ما كانت على متنها؟ تبقى الأجوبة على هكذا تساؤل معلقة، ولكن وبصرف النظر عن مجمل الإجابات، جاءت الحادثة لتعزز كثيراً من الحقائق، منها البرهنة على حجم الهوّة التي تفصل بين أركان الحكم في طهران، وعلى وجود تيارات وقوى داخل أجنحة النظام تعمل بمعزل عن أي استراتيجية موحدة أو نهج سياسي ترسمه دوائر الدبلوماسية الإيرانية، على أن الأكثر خطورة جراء الحادثة ومن ثم تبني الحرس الثوري لها يكمن في التدليل على أن الحرس الثوري كمؤسسة عسكرية أصبح مليشيا غير خاضعة لمنطق الدولة أو اعتباراتها، وهو بذلك تحول إلى تيار مهيمن يقبض على مفاصل الدولة بكل ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر، وصولاً إلى اتخاذ قرارات متهورة من قبل بعض قادته.
الاعتراف الإيراني بالإجماع، عسكريوه ومدنيوه، يمثل انعكاساً دقيقاً لمرحلة اضطراب تعصف بذهنية أركان الحكم دون استثناء، وتعزز القناعة بأن الخطر الإيراني لا يكمن في أسلحتها المتنوعة الصنوف التي تستعرضها في المناسبات، بل في عدم توفر وحدة عمل منهجية ترسم السياسات والاستراتيجيات للتعامل مع التحديات بمنظوريها الداخلي والخارجي، وتعكس أيضاً وجود خلل بنيوي في عدد من مرافق موقع القرار، وعدم وضوح الرؤية الناجم عن المعاناة والمشكلات الذاتية التي تعصف بنظام الحكم، وعن حالة من التناحر بين أقطابه، وهم جميعاً يعيشون اليوم تحت ضغط المطالب الشعبية متعددة المناحي، وتحديات خارجية نتيجة سياساتهم المتهورة ونزعاتهم التوسعية، مجملها أدى إلى فقدهم الإمكانية والقدرة على إعادة تأهيل أنفسهم ونظام حكمهم، بيد أن الأمر الذي لا يقل أهمية عن كل ما تقدم يكمن في انكشاف نظام الحكم في إيران للعالم وأن ادعاءاته وتهويله ودعاياته لقوته العسكرية والتكنولوجية ما هي إلا صرخة لا صدى لها على أرض الواقع.
الاعتراف والتعويض لجميع المتضررين حق قانوني وأخلاقي ولكن لا بد أن يكون ملفاً ملحقاً، لأن جوهر القضية مرتبط بسياسة ونهج دولة، وليس بنزوات بشر، أو تشويش جهاز.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة