من هم الآخرون الذين يقصدهم ماتيس؟ وما الشيء الخطير الذي وصفه ترامب؟
هل اقترب زمن «الربيع الإيراني» والمفترض فيه أن يذهب بعيداً بنظام الملالي في طهران ليُنهي أربعة عقود من الاستبداد والشمولية في الداخل، ومن تصدير عدم الاستقرار وزعزعة الأمن الإقليمي في الجوار، عطفاً على تدبير وترتيب المؤامرات حول العالم، سواء كان العالم الحقيقي أو العالم الافتراضي؟
ربما يكون الاحتمال أقرب إلى إيران من حبل الوريد، وما نشره الأيام القليلة الماضية بعض المواقع الأميركية عن مستقبل إيران يؤكد أن المسألة باتت تتجاوز فكرة العقوبات، وإعادة فرضها بعد الانسحاب من الاتفاقية النووية.
حين ثأر الإيرانيون ضد نظام الشاه كانت ثورتهم تتصل بالداخل الإيراني الباحث عن الحرية والعدالة والمساواة، وليس الدور الإقليمي أو تصدير رؤى فقهية زائفة... هل يكرر التاريخ نفسه؟.
بعد يوم واحد من إعلانه المثير الذي وضع وجه الإيرانيين إلى الحائط تحدث الرئيس ترامب بكلام أقرب ما يكون إلى الشيفرة السرّية التي تحتاج إلى من يفكك معانيها ومبانيها، فقد أشار إلى أن: «شيئاً ما سيحدث ما لم تقبل إيران إعادة التفاوض».
يدرك ترامب تمام الإدراك أن الإيرانيين لن يقبلوا شروطه الجديدة، ذلك أن تخليهم عن برنامجهم الصاروخي، ووقف نزعات الهيمنة خليجياً وشرق أوسطي، ناهيك عن التخلي عن آمالهم وأحلامهم في حيازة سلاح دمار شامل، أمر معناه نهاية الثورة الإيرانية القائمة على تصدير فائض القوة وكذا الأفكار الثورية لتغيير شكل المنطقة.
أحد الأسئلة العميقة المطروحة على موائد النقاش الأكاديمية اليوم: هل يمكن أن تقتدي إيران بنموذج كوريا الشمالية؟
العقول الاستراتيجية ومراكز الفكر الأميركية تدرك الفارق جيداً، ذلك أن كوريا الشمالية دولة مدنية اعتيادية تمارس أعمال السياسة والسيادة من منطلقات أيديولوجية. غير أن إيران دولة عقائدية ثيولوجية تحمل، حسب رؤاها المنحولة، دعوة لهداية العالم، وهذا لا يتم في تصورها إلا من خلال السيطرة عليه، سيطرة تامة وشاملة تبدأ بتصدير الثورة إلى دول الجوار الإسلامي ومن ثم إلى بقية أرجاء العالم، في مشهدٍ كارثيّ لملّاك الحقيقة المطلقة.
ليومين بعد إعلان الانسحاب من الاتفاقية استمع الأميركيون والعالم إلى وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس، متحدثاً أمام لجنة المخصصات المالية في مجس الشيوخ، وقد كان كلامه أكثر إثارة من كلام ترامب، إذ أشار إلى أن القوات المسلحة الأميركية لن تطلب المزيد من الأموال بعد انسحاب ترامب، وأن الأميركيين سيعملون مع شركائهم وحلفائهم...». وسيعملون مع آخرين «لضمان التصدي للنفوذ الإيراني الخبيث».
من هم الآخرون الذين يقصدهم ماتيس؟ وما الشيء الخطير الذي وصفه ترامب؟
يبدو أن موقع «فري بيكون» الأميركي الشهير قد بدا يقدم لنا خيطاً رفيعاً مما ترتبه واشنطن لطهران، فقد أماطت اللثام عن ملامح ومعالم مخطط تمت صياغته وصناعته في أحد المراكز الفكرية المستترة وراء مجلس الأمن القومي الأميركي، ويدعى «مجموعة الدراسات الأمنية SSG»، وهي بلا شك واحدة من الخلايا الأمنية والاستخباراتية عالية المستوى، وتتوافر لها معلومات وأدوات تميزها عن مثيلاتها.
باختصار غير مخلٍّ، الرؤية التي قُدمت لترامب تقوم على أن إيران لن تغيّر سلوكها، وأن الاتفاقية السابقة لم تكن إلا تسويفاً للوقت، وعليه فإن الخيارات تجاهها في الحال القريب جداً تمضي في اتجاهين:
الأول، أن يقبل الأميركيون بإيران نووية، مع كل التبعات والاستحقاقات لهذه الفرضية، وهو أمر مستحيل.
الثاني، العمل وبأسرع ما يمكن على تدمير أكبر قدر ممكن من القوة الإيرانية، أيْ خيار الحرب، وهو شأن تكاليفه عالية وغالية.
العقول الأميركية التي لها دلالة معمقة على التعلم من تجارب الماضي، سيما التدخلات المسلحة في الشرق الأوسط، لا ترغب في الدخول في مواجهة عسكرية شاملة مع إيران، وإن رغبت أبداً ودوماً في تكثيف الجهود لتخليص إيران من نظام حكمها السلطوي المتشدد، كما أن واشنطن ستكون سعيدة بالتعامل مع حكومة بديلة، وربما يكون هذا هو الطريق الأكثر احتمالاً لإيران خالية من الأسلحة النووية وأقل خطورة.
في هذا السياق يظهر إلى العلن وربما للمرة الأولى الحديث عن «الربيع الإيراني»، أي دعم المواطنين الإيرانيين الذين فاض بهم الكيل في الداخل الإيراني من الأوضاع الحياتية المزرية، سواء تعلق المشهد بمساحة الحريات الإنسانية أو الأوضاع الاقتصادية التي بلغت حداً غير مسبوق من السوء والتدهور.
يبدو من الواضح جداً أن إدارة ترامب تعمل على خيار الداخل الإيراني ليكون رأس الحربة في تغيير نظام الملالي، ورغم أن الأمر لن يكون يسيراً، فإن الانفجار المتوقع والناجم عن الضغوط الاقتصادية القادمة يمكن من جهة أن يفعل فعله.
ومن ناحية ثانية فإن التركيبة المجتمعية الإيرانية غير المنصهرة معاً تفتح نوافذ وأبوابا لشيءٍ ما يجري في الخفاء، فقمع النظام الإيراني الأقليات العرقية والدينية يدفع دفعاً باتجاه تقسيم البلاد. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن ثلث سكان إيران أقليات، وأن كثيراً منهم يسعون للاستقلال بالفعل، فإن إيران تضحى في خطر داخلي يحتاج إلى عود ثقاب مشتعل لتغيير المشهد على نحو أو آخر.
هذا الطرح لم يكن خافياً عن أعين إدارات سابقة، سيما إدارة باراك أوباما التي رفضت عام 2009 استغلال المظاهرات وثورات الغضب ضد الملالي لصالح تغيير سلوك الملالي، الأمر الذي يلقي بكثير من علامات استفهام على العلاقة بين إدارته وبين طهران، وهو أمر حتماً سيحكم عليه التاريخ.
كشفت مظاهرات ديسمبر (كانون الأول) الماضية، في عموم إيران عن حالة الاهتراء التي يسعى النظام السياسي الإيراني إلى إخفائها داخل خطاب شعبوي يتباهى بقوة البلاد ومنعتها، كما أن هتافات المتظاهرين وضعت روحاني وخامنئي في سلة واحدة، بما يُسقط الخط الافتراضي الوهمي الذي كان يرسم بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين. حين ثأر الإيرانيون ضد نظام الشاه كانت ثورتهم تتصل بالداخل الإيراني الباحث عن الحرية والعدالة والمساواة، وليس الدور الإقليمي أو تصدير رؤى فقهية زائفة... هل يكرر التاريخ نفسه؟
الأسوأ لإيران وحسب الـ«SSG» هو أنه حال فشل «الربيع الإيراني» فإن العمل العسكري يعرف مساره جيداً.
نقلا عن الشرق الأوسط
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة