الرهانات المطروحة بشأن خيارات إيران للعودة للتفاوض مجددا مرتبط بإمكانية تهيئة الداخل الإيراني والوصول إلى حالة من الاستقرار السياسي.
مع دخول العقوبات الأمريكية في درجتها الثانية حيز التنفيذ سيكون السؤال المطروح.. هل تنجح هذه العقوبات الجديدة في الضغط على إيران، وإثنائها على نهجها السياسي والاستراتيجي الراهن في التدخل في شئون الإقليم بأكمله، ومراجعة برنامجها النووي والصاروخي، والكف عن التدخل في دول الإقليم، والعودة مجددا إلى التفاوض مع الولايات المتحدة، خاصة أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بأنصاف حلول، وأشباه خيارات في التعامل مع إيران في الفترة المقبلة؟
سيستمر الجانب الأمريكي متابعا ومراقبا لما يخطط له الجانب الإيراني، خاصة أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بأي تغييرات في المعادلة الإيرانية مع دول جوارها أو خارجها، بل ستعمل على الضغط على ألمانيا وفرنسا في النطاق الأوروبي لعدم استمرار دعمهما الراهن للجانب الإيرانيأولا: ستأخذ إيران بعض الوقت للعودة للتفاوض مع الولايات المتحدة، خاصة أن المراوغات الإيرانية التي كان تم التعامل معها مسبقا لن تفيد استدعاء بعضها، مثلما جرى في فترة الرئيس أحمدي نجاد، خاصة مع التصميم الأمريكي على إنجاح منظومة العقوبات الجديدة، وامتدادها لقطاعي النفط والمصارف التي تمثل المركز المالي الكبير للتحركات الإيرانية الضخمة في العالم، والمؤكد أن الاتفاق الجمعي لمجموعة إدارة الأزمة في البيت الأبيض وخبراء الإدارة الأمريكية يتفقون بصورة كبيرة على استمرار العقوبات وإعادة إيران للتفاوض، ولكن هذا الأمر سيرتبط بصورة كبيرة في الفترة المقبلة باستمرار الضغط الاقتصادي، وعدم إعطاء إيران مساحة للحركة دوليا، مما سيضيق الخناق على السياسات الإيرانية التدخلية، ويحد من برنامجها النووي والأنشطة التي تمثل خطرا داهما على أمن دول الجوار الإقليمي، خاصة أن استمرار إيران في سياستها الاستراتيجية وتطوير برنامجها الصاروخي سيكون له تداعيات مكلفة ليس في الإقليم وإنما أيضا خارجه، وهو ما يتطلب تحركا أمريكيا مباشرا يجري بالفعل ويحتاج إلى تفعيل وبعض الوقت للضغط على إيران، ووضعها في دائرة محددة وسيفرض عليها الخيار الصفري في العودة للتفاوض من منطلق ومصلحة إيرانية وأمريكية مشتركة.
ثانيا: إن الرهانات المطروحة بشأن خيارات إيران للعودة للتفاوض مجددا مرتبط بإمكانية تهيئة الداخل الإيراني والوصول إلى حال من الاستقرار السياسي، خاصة مع استمرار التظاهرات بصورة غير دورية، ومطالبها بمراجعة السياسات الإيرانية الإقليمية، ولكن هذا الأمر سيرتبط بالصراع المكتوم بين المعتدلين والمحافظين، خاصة بالنسبة للتوجهات الحاكمة للنظام الإيراني، والذي يتحدث عن أخطاء الحكومة وليس الدولة أو نظامها، ومن ثم فإن النظام الإيراني قد يسعي إلى التأكيد على الخيارات المتعددة وإمكانية العودة للتفاوض في ظل استراتيجية تكتيكية حال تضرر الاقتصاد الإيراني بالفعل، والفشل في مواجهة الإجراءات العقابية الشاملة، والمتوقع أن تتطور في ظل مطالبة الرئيس الأمريكي ترامب بضرورة عدم التوقف عند استراتيجية العقوبات الراهنة على درجتين، وإنما الانطلاق لاستراتيجية ومقاربة حقيقية كاملة يمكن أن تكون مدخلا لتغيير استراتيجي إزاء إيران، ليس في الشرق الأوسط وإنما أيضا في آسيا؛ حيث ستسعى إيران إلى تطوير علاقاتها بدول مثل روسيا وتركيا وباكستان والهند، والرسالة أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بأن تراوغ إيران، خاصة أن عودة إيران للتفاوض مجددا قد يدفعها للتصعيد إقليميا وفي الشرق الأوسط، وفي العراق واليمن وسوريا مجددا لكي تدخل حلبة التفاوض من منطق امتلاكها أوراق ضغط حقيقية يمكن أن تعمل بها، خاصة أن التفاوض الأمريكي الإيراني لن يتم إلا على أرضية واقعية ومقاربة حقيقية من المصالح الاستراتيجية.
ثالثا: ستعمل مؤسسات الظل وعلى رأسها مجلس حماية الدستور وتأمين النظام على استعادة الدور السياسي بصورة واضحة، وسيكون لها دور في حسم الخيارات الإيرانية الحقيقية بعيدا عن صراع المعتدلين والمحافظين، إذ أن مراكز التأثير في النظام لن تقبل بأن يتعرض النظام الإيراني للخطر، وستعمل على استعادة القيادة والتأثير الحقيقي والفعال في ظل خيارات بديلة، وهو ما قد يدفع بالواجهة الرئيس حسن روحاني، الذي يدرك أن صراعه الرئيسي ليس في العودة للتفاوض ومراجعة السياسات الإيرانية في ظل المد الثوري البارز للحرس الثوري، ومؤسسات الظل الأخرى الكامنة والتي ستعمل على إعادة تدوير أولويات النظام السياسي الإيراني، والتأكيد على جوهر ومضمون ولاية الفقيه في ظل ما يتردد في الشارع الإيراني بضرورة إتمام مراجعات كاملة للنظام في ظل الحالة الاقتصادية والمالية المتدهورة، والتي لن يفيد فيها تغيير مسؤولين أو وزراء، أو وضع سياسة مالية بديلة في ظل فعالية تنفيذ العقوبات الأمريكية، والتي سيكون لها تأثير حقيقي كما هو مقدر اقتصادي ومالي، وفي ظل حال من الترقب الإيراني للتعامل مع العقوبات الجديدة خاصة أن الخطط الإيرانية البديلة لم تعلن، وإن كان هناك توقعا بأنها ستركز بالأساس على محاولة للإفلات من المراقبة الدولية في البحار والممرات الدولية عن طريق تغيير الأكواد والتشفير للسفن الإيرانية، مع إمكانية تخزين النفط في حاويات ضخمة في أعالي البحار أو تأجير سفن بديلة، والاعتماد على ما يعرف بنظام الاقتصاد المقاوم الذي يطرح إعلاميا في إيران، ولكن يحتاج إلى آليات وأساليب متعددة للعمل، كما سيبقي الاكتفاء الذاتي والدعوة للاعتماد على الداخل دعوة رمزية ورسالة للشارع المحتقن، ولكن فعليا لن تكون مجدية في ظل احتمالات تطوير منظومة العقوبات ووضع مقاربة أشمل وأقوى في الفترة المقبلة، وهو ما تتخوف منه إيران بالفعل.
رابعا: سيظل الرهان المطروح كيف ستناور إيران؟ وما أدواتها حين تعود بالفعل للتفاوض حيث لا خيار آخر؟ وهو ما يعلمه الجميع في إيران، وإن كانت المناكفات الإيرانية الأمريكية ستستمر إلى حين العودة لخيار التفاوض نظريا، كما ستظل دول الاتحاد الأوروبي داعمة لإيران واستمرار الاتفاق النووي مع محاولة تفعيل آلية التعامل المالي والنفطي وتوظيف قانون التعطيل الأوروبي السابق استخدامه في كوبا وليبيا، وإمكانية تقديم دعم مالي ونقدي للاقتصاد الإيراني من قبل الاتحاد قائمة على اعتبار أن هذا الخيارات واردة ومهمة، وتصب في إطار استمرار الاتفاق النووي مع إيران، ولكن وفي المقابل ستواجه السياسات الأوروبية المقترحة وفي مجملها عقبات، منها أن النظام الأوروبي والآلية المقترحة في حاجة إلى وقت للتنفيذ، ولن يبدأ العمل بها قبل مطلع العام المقبل، كما أن الولايات المتحدة سترفض أي دعم مالي ونقدي أوروبي مباشر لإيران، بل ستضع ضوابط جديدة في إطار ما بعد منع إيران من استخدام نظام سويفت الدولي وإخراج إيران من أية تعاملات مالية دولية، وهو ما سيمثل ضغطا حقيقيا على أية تحركات إيرانية في الأسواق الخارجية، بل ستعمل الإدارة الأمريكية على الضغط على الجانبين الهندي والباكستاني لمنع استمرار الوضع النفطي وإتمام أية تحويلات، مع السعي لتقديم البديل بالنسبة للهند بإمدادها بالنفط المطلوب، أو توفير ذلك عبر شركاء في الشرق الأوسط، كما سينطبق ذلك على الجانب الروسي والتركي، في إطار تضييق جميع الخيارات أمام إيران التي ستعمل على جذب الحلفاء في نطاقها الآسيوي بصورة لافتة، بل قد تقدم على تقديم تنازلات في ملف بحر قزوين.
وفي كل الأحوال سيستمر الجانب الأمريكي متابعا ومراقبا لما يخطط له الجانب الإيراني، خاصة أن الإدارة الأمريكية لن تقبل بأي تغييرات في المعادلة الإيرانية مع دول جوارها أو خارجها، بل ستعمل على الضغط على ألمانيا وفرنسا في النطاق الأوروبي لعدم استمرار دعمهما الراهن للجانب الإيراني، وهو ما سيمثل ضغطا حقيقيا على النظام الإيراني خارجيا، وفي حال استئناف التظاهرات في المدن الإيرانية وتشعب مساراتها وحركتها في مدن جديدة، وتنامي خريطة الاحتجاجات الشعبية بصورة كبيرة فإن النظام الإيراني سيبدأ خطوات حقيقية للتراجع والعودة للتفاوض، وهو أمر متوقع جدا، ولا شك أن التقديرات الاستراتيجية الأمريكية تمنح النظام الإيراني عدة أشهر للاستمرار في نهجه الراهن في محاولة المواجهة والاستكبار السياسي، كما يحدث في الخطاب الإعلامي والسياسي الراهن للنظام الإيراني، والذي يكرر التوجهات نفسها والمواقف التي سبق أن تم إطلاقها مرارا من قبل مما أفقدها الواقعية، وفي ظل حال من التضرر أصابت المجتمع الإيراني بالكامل نتاج السياسات التدخلية في الإقليم، وتنامي دور مؤسسات الظل في الداخل ورفض الإنصات للمطالبين بضرورة إجراء حوار واقعي مع الجانب الأمريكي، وعدم إضاعة الوقت في مواجهات إعلامية وسياسية خاصة مع المخاوف الإيرانية من تضرر الاقتصاد الإيراني بالكامل، وليس قطاعي النفط أو المصارف، وفي حال تطوير الإدارة الأمريكية منظومة العقوبات، وطرح رؤية ومقاربة شاملة من العقوبات، وهو أمر متوقع جدا بعد انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس مما سيتيح للجانب الأمريكي حرية الحركة وتنفيذ كافة السياسات المطروحة تجاه إيران، وعدم الوقوف عند مرحلة ثانية من العقوبات.
خامسا: سيظل الجانب الإيراني يتحدث عن مناعته السياسية وقدراته الاقتصادية ورهاناته المستقبلية في مواجهة السياسة الأمريكية العدوانية، وأن الرئيس الأمريكي ترامب يتربص بالعالم ويصطدم بالجميع، وأن إيران مستهدفة لجملة سياستها الإقليمية والدولية، وفي الوقت نفسه سيرتب للخطوة التالية في التعامل الدولي، سواء في استمرار قنوات الاتصال مع الاتحاد الأوروبي ومع دول مثل باكستان والصين وروسيا والهند، ولكن وفي المقابل لن تستطيع إيران الاستمرار طويلا في دائرة التحدي الراهن للسياسات الأمريكية، خاصة أن إيران ورغم قدرتها على الاستمرار في خطها الإعلامي لعدة أشهر مع قياس ردود الفعل على الداخل الإيراني إلا أن هذا الخيار مرتبط بالفعل باستراتيجية أمريكية صفرية ستدفع إيران لحافة الهاوية دون إسقاط النظام مع العمل على تغيير توجهاته السياسية، وهو أمر سيكلف إيران الكثير في ظل سياستها التدخلية، والتي حققت لها حضورا سياسيا واستراتيجيا كبيرا ومكانة دولية بصرف النظر عن النهج العدواني والسافر في شئون دول الإقليم، مما مكنها من الدخول في مقايضات سياسية متعددة طوال السنوات الأخيرة، بل نجحت في الحفاظ على برنامجها النووي، ولم تنجح الإدارة الأمريكية -لثغرات حقيقية في الاتفاق النووي الرئيسي- في تحجيم الأنشطة النووية بصرف النظر عن تفاصيل وبنود الاتفاق، إضافة إلى الاستمرار في تطوير برنامجها الصاروخي، وهو الخطر الحقيقي على أمن الإقليم بأكمله.
ستعود إيران للتفاوض لا محالة؛ حيث لا خيارات بديلة وسيناريوهات مستجدة، والمسألة متعلقة بالوقت والنفقة والتكلفة والعائد، وحسابات المكاسب والخسائر بنظام ولاية الفقيه ولمؤسساته التي تعمل في الظل، ويبقى الخاسر الأول والأخير الشعب الإيراني.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة