الخلاصة أن إيران ستستمر في المناورة السياسية والاستراتيجية ولن تتراجع ما لم تقم الولايات المتحدة وبريطانيا بدورهما الاستراتيجي.
ما زال السلوك الإيراني الراهن في التعامل مع التطورات في الخليج يعتمد على إطالة أمد الأزمة وعدم العمل على حلها أو على الأقل العمل على التوصل إلى نقاط توافق في المشهد الراهن، سواء كان مع دول الترويكا الثلاثية أم الولايات المتحدة؛ إذ لوحظ أن المخاوف التي تم طرحها في البداية هي الرهان على أن الجانب الإيراني يعمل على التعايش مع الأزمة، واللجوء لفتح مساراتها المتعددة بهدف تحقيق أهدافه الراهنة في التعامل.
الخلاصة أن إيران ستستمر في المناورة السياسية والاستراتيجية ولن تتراجع، ما لم تقم الولايات المتحدة وبريطانيا بدورهما الاستراتيجي، وعدم التردد والارتكان لإجراءات فرعية تستثمرها إيران جيدا، وتحسن التعامل معها إعلاميا وسياسيا، خاصة مع مسعاها لطرح سياسات أولى بديلة وثانية وقائية وثالثة استباقية
نتيجة لذلك، كان المخطط الإيراني منذ البداية تشعيب عناصر الأزمة وتوسيع أطرافها، والعمل على نقل رسالة إلى الأطراف المباشرة بأن إيران لن تسلم، وأنها لن تقدم على تقديم تنازلات حقيقية سعت الإدارة الأمريكية من البداية للتوصل إليها، حيث لوحظ التناقض في السياسة الأمريكية التي اعتمدت خطابا تهادنيا تجاه إيران.
فمن الحديث عن التسوية وعدم الصدام والدعوة للتفاوض للمضي قدما في نقل الرسائل والتغريدات الرئاسية التي تقر بأن إيران دولة مهمة، وعظمى في نطاقها الإقليمي، مرورا بالدعوة لإجراء مفاوضات مباشرة ووجها لوجه.
وكانت الوساطات الإقليمية والدولية، والتي فشلت تباعا في تقريب وجهات النظر بين الجانبين، وكان التعايش الراهن مع الأزمة الإيرانية مرجعه تداخل ملفات التعامل مع إيران كدولة مهددة لأمن الإقليم بأكمله من جانب، ووجود تجاذبات أمريكية من جانب وأمريكية أوروبية في التعامل من جانب آخر، ما منح الجانب الإيراني الفرصة في العمل، والانتقال إلى جزئيات في التفاوض غير المباشر مع عدم القبول ببعض الرؤى الأمريكية بالأساس.
هذا إلى جانب أنه نجح في إدخال الجانب الأوروبي في حلبة المواجهة الراهنة في إطار الأولويات الأوروبية في التعامل مع الاتفاق النووي، وبنوده التي يتراجع النظام الإيراني عن الالتزام بها مرحليا، وبدأ فعليا في التنصل من الاتفاق بأكمله، وليس من خلال بنود محددة تتعلق بالتخصيب، أو استئناف العمل في مفاعل آراك.
كما عملت إيران على الانتقال بالأزمة الراهنة إلى مسارات مفتوحة على كل المشاهد اطمئنانا لما تردد في بدايات الأزمة من عدم وجود أي مصالح في التصعيد العسكري للأزمة، وهو ما بنت عليه إيران مخططها السياسي والتفاوضي من خلال وقف تكتيكي للممارسات العدوانية والتخريبية في الخليج، والكف المرحلي عن تهديد أمن الملاحة في الوقت الذي تعالت فيه الأصوات الامريكية والأوروبية بالبحث عن البديل والخيار الآخر المتعلق بحماية أمن الإقليم، في حين بقي الموقف الإيراني على حاله مراوغا ومستمرا وباحثا عن مصالحه.
ومن ثم فليس صحيحا أن إيران وضعت حساباتها جنبا وتنتظر ما الذي ستسفر عنه التحركات الدولية للتعامل مع مهددات الأمن الخليجي، والتي تراه إيران أنه يظل إقليميا وليس دوليا، فكان واضحا أن إيران تعتمد على استراتيجية الرفض، والانتقال بالأزمة إلى مرحلة جديدة، وهي عدم الإقرار بأي سياسات حقيقية مستجدة لأمن المنطقة لا تكون طرفا فيها، خاصة أن أغلب هذه الإجراءات التي طرحت أمريكيا وأوروبيا تحتاج إلى تضافر كامل وتوافق دولي لم يحدث بعد، في ظل التباين في المصالح من جانب، ومسعى إيران لتطويق المواقف الدولية والعمل على إفشالها.
فالمخطط الإيراني الحالي لم يقبل أي أفكار مطروحة في تأمين الملاحة الدولية لكنه في نفس التوقيت يعمل على معالجة ما يطرأ من تطورات في إطار بعض الإجراءات الأمريكية الحالية، ومنها على سبيل المثال فرض العقوبات على وزير الخارجية الأمريكي جواد ظريف، ومن قبل على رموز الحرس الثوري وغيرهم، للتأكيد على أن الولايات المتحدة تعمل في نطاق من التصعيد برغم أن الإدارة تعلم جيدا أن تفعيل منظومة العقوبات على إيران ستتطلب مزيدا من الإجراءات الجديدة غير التقليدية التي بدأت في تنفيذها، ومن ثم فإن الإدارة الامريكية أمامها الوقت لتثبت هذا من خلال إجراءاتها، وعدم الانصات للموقف الأوروبي عامة والفرنسي على وجه الخصوص في إيقاف بعض العقوبات، لا سيما أن الجانب الإيراني بات لديه خبرات متراكمة في العمل على الإفلات من الإجراءات الأمريكية أو محاصرته بمزيد من الإجراءات، حتى في مسألة بيع النفط دوليا، إضافة للتعامل بالعملات البديلة التي تلجأ إليها إيران وغيرها من التنظيمات، وسبق أن استخدمتها حركة حماس خارجيا وهي عملة البيتكوين وغيرها، ومن المهم التأكيد على أن إيران لن تتوقف عند خطوات الإفلات من المخططات الأمريكية فحسب، بل أيضا العمل على بناء مواقف جديدة في مواجهة الخارج.
أول المواقف هو: تجاه دول الاتحاد الأوروبي شركاء الاتفاق النووي مع التأكيد على الاستمرار في الاتفاق واستمرار الموقف الأوروبي في الضغط على الجانب الأمريكي لتأجيل خطوات تنفيذ بعض الإجراءات الاقتصادية، وإفساح المجال أمام البدائل المتاحة مقابل الالتزام بالاتفاق الراهن، وإلا فإن البديل سيكون الخروج التكتيكي من الاتفاق، والمضي قدما في تبني إجراءات من جانب واحد، وهو ما تقوم به إيران دون الإعلان عنه ما يمثل خطرا حقيقيا على أمن الإقليم بأكمله، وليس في الخليج العربي فقط.
ومن ثم فإن التشويش على خطواتها العدوانية في الخليج وتهديد أمن الملاحة سيقابله تسريع حقيقي في الملفين النووي والصاروخي، ومن ثم سيكون على رأس الأولويات الأمنية والاستراتيجية للولايات المتحدة ليس فقط تطبيق العقوبات وتفعيلها، وإنما التعامل مع مجمل ملفات التعامل مع إيران، وهو أمر يحتاج إلى تحركات أمريكية حقيقية وتوافق أمريكي أوروبي ورؤية مستفيضة للخطر الإيراني، وليست مواقف جزئية ورؤى تتوقف عند نقاط صغيرة توظفها جيدا إيران، وتعمل عليها بذكاء سياسي واستراتيجي لافت.
ثانيا: تجاه الإدارة الأمريكية التي تتذرع بخطوات يبدو فيها تناقضا حقيقيا وتداخلا غير صحيح، حيث تحتاج الإجراءات المعلنة إلى سرعة في التنفيذ منها إعادة الانتشار في الخليج، وزيادة عدد القوات الأمريكية وإعادة وضع الخطط الاستراتيجية الموجودة أصلا في المنطقة.
وهنا يجب الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية لن تبدأ من الصفر، ومن ثم فإن الانتقال إلى تنفيذ الإجراءات الاستباقية والمقابلة للتعامل مع السلوك الإيراني ليس في حاجة لوقت، بل بالعكس فإن سرعة الحركة الأمريكية ستؤدي بالفعل إلى نقل رسالة للإدارة الأمريكية بجدية الموقف الأمريكي، وعدم تردده في التعامل سواء نفذ المشروع الأمريكي بالكامل لأمن الخليج، وتأمين الملاحة البحرية في المنطقة، أو تم تأجيله مقابل تبني سياسات منفصلة وجزئية قد تقوم بدور مرحلي في هذا السياق. وفي حال دخول الجانب البريطاني على الخط عبر تنفيذ ما تم الإعلان عنه، فإن هذه الإجراءات ستكون كفيلة بعدم إقدام الجانب الإيراني على أي أعمال تخريبية تهدد أمن الناقلات الدولية أو الإقليمية.
ولكن سيبقى السؤال مطروحا وبقوة: ماذا عن المخاطر الأخرى للسياسة الإيرانية وبرنامجها النووي والصاروخي؟ وكيفية التعامل معه بصورة مباشرة، لا سيما في ظل عدم وجود طرف يشير إلى الأولويات الراهنة في هذا الملف، وهو لا يقل خطورة عن التهديدات الآنية التي يجب التعامل معها على نفس مستوى الأهمية.
وما تزال تعمل إيران على نقل رسالة للأطراف المقابلة بأن أمن إيران يجب أن يعلو على أمن الآخرين، وأن إيران لن تسلم بسهولة، بل لن تكون دولة منبوذة، خاصة أنها ما تزال ترى في إمكانياتها وقدراتها الكثير، ووفقا لحسابات القوة الشاملة التي تعمل من خلالها وتستمر في مناطحة القوى الكبرى، انطلاقا من رؤية استراتيجية تحمل قدرا كبيرا من الخطر الحقيقي الذي يجب الانتباه إلى تبعاته في الفترة المقبلة، والتي تمثل بالفعل خطرا حقيقيا على الأمن في منطقة الخليج، بل أمن العالم بأكمله.
والخلاصة أن إيران ستستمر في المناورة السياسية والاستراتيجية ولن تتراجع ما لم تقم الولايات المتحدة وبريطانيا بدورهما الاستراتيجي، وعدم التردد والارتكان لإجراءات فرعية تستثمرها إيران جيدا، وتحسن التعامل معها إعلاميا وسياسيا، خاصة مع مسعاها لطرح سياسات أولى بديلة وثانية وقائية وثالثة استباقية، وهو ما يشير إلى خبرة الجانب الإيراني في المراوغة، وتشعيب عناصر الأزمة وإطالتها، وهو مخططه منذ البداية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة