إرهاب إيران يهدد رئيسة الأرجنتين السابقة بحياة خلف القضبان
قضية واسعة تعود لأكثر من 20 عاما تكشف تواطؤ الحكومة الأرجنتينية السابقة مع إيران، وتوغل طهران المتفشي في أمريكا اللاتينية.
شهدت الأرجنتين زلزالا سياسيا عندما استيقظت الأسبوع الماضي على خبر اتهام قاضٍ للرئيسة السابقة وعضو مجلس الشيوخ كريستينا فرنانديز دي كيرشنر بـ"خيانة الوطن"، التي يعاقب عليها بالسجن 25 عاما، وجريمتها هي التغطية على دور إيران في أحد أكثر الهجمات الإرهابية دموية في الأمريكيتيين قبل هجوم 11 سبتمبر/أيلول في نيويورك.
ففي يوليو/تموز 1994، قاد إبراهيم حسين، أحد عملاء "حزب الله" الإرهابي المدعوم من إيران، شاحنة محملة بـ606 رطلا من سماد نترات الأمونيوم وزيت الوقود داخل مركز مجتمع يهودي في العاصمة بوينس آيرس، ما أسفر عن 85 قتيلا و300 مصاب، وما زال هو الهجوم الأكثر دموية في تاريخ الأرجنتين، حسبما ذكر كل من مارك دوبويتز رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات وخبير في العقوبات ضد إيران وتوبي دوشويتز نائبة رئيس مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات بصحيفة نيويورك تايمز.
ومنذ 2004 وحتى 2015، سعى المدعي العام السابق ألبيرتو نيسمان، الذي عثر عليه ميتا داخل شقته في ملابسات غامضة، لكشف الحقيقة وراء الهجوم ليجد خلال تحقيقه أن الاعتداء كان عملية خططت لها إيران، ما قاده إلى قرار بأن كيرشنر كانت وراء تستر يهدف إلى تبرئة إيران من الجريمة.
الأرجنتين كانت تواجه آنذاك أزمات اقتصادية جمة، ويبدو أن الفوائد المالية من توطيد العلاقة مع إيران قد تكون أغرت الرئيسة الأرجنتينية، كما أن حكومتها كان لديها علاقات شعبوية مع إيران وتكتل الدول البوليفاري الذي تقوده فنزويلا، لكن أيا كان السبب لم يتم اتهام كيرشنر رسميا على الإطلاق حتى قبل الخميس الماضي.
ولم يحاول القاضي الفيدرالي كلاوديو بوناديو تجميل الكلام عندما قدم لائحة الاتهامات المؤلفة من 491 صفحة ضد كيرشنر ووزير خارجيتها هيكتور تيمرمان، ورئيس المخابرات، ومستشارها القانوني، واثنين من الناشطين المؤيدين لإيران، و10 آخرين.
ووصف بوناديو الهجوم بأنه "إعلان حرب" من قبل إيران، متهما كيرشنر بالتغطية على دور زعماء إيرانيين بارزين ومليشياتهم حزب الله مقابل عقد اتفاق تجاري مع طهران، حسب ما ورد في مقال الرأي الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية.
وطالب القاضي بونايدو الذي يتولى القضية الكونجرس الأرجنتيني بانتزاع الحصانة عن كيرشنر، التي انتخبت مؤخرا في منصبها بمجلس الشيوخ، حتى تتمكن السلطات من اعتقالها ومحاكمتها.
اختراق إيران لأمريكا اللاتينية
وخلص المدعي العام السابق نيسمان وفريقه خلال التحقيق إلى أن مسؤولين سابقين في إيران و"حزب الله" خططا للهجوم الإرهابي، وتمكن من التأكيد بشكل قاطع أن الخطة كانت تتضمن ما لا يقل عن الرئيس الإيراني الأسبق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ووزير المخابرات في حكومته، ووزير خارجيته، ورئيس الحرس الثوري الإيراني آنذاك، ورئيس كتائب القدس، والملحق الثقافي الإيراني بالأرجنتين، والسكرتير الثالث بالسفارة الإيرانية في بوينس آيرس، وكذلك الرئيس السابق للأمن الخارجي بـ"حزب الله" الإرهابي.
ودفع تحقيق نيسمان الشرطة الدولية (إنتربول) لإصدار إخطارات حمراء -التي تماثل مذكرات اعتقال دولية- ضد 6 من المنفذين، كما أصدرت الأرجنتين نفسها مذكرات اعتقال ضد رفسنجاني ووزير خارجيته علي أكبر ولايتي، وهو ما تجاهلته طهران بالطبع.
ولم يتوقف نيسمان عند ذلك، حيث أطلق في مايو/آيار 2013 لائحة اتهام من 500 صفحة تسلط الضوء على كيفية اختراق إيران للأرجنتين والبرازيل وأوروجواي وتشيلي وجويانا وباراجاوي وترينيداد وتوباجو وسورينام، وكيف استخدمت المساجد ومنظمات الخدمات الاجتماعية وسفاراتها لتجنيد الإرهابيين ونشر التطرف.
وشارك نيسمان أيضا معلومات ساعدت السلطات الأمريكية لاكتشاف أن محسن رباني، الملحق الثقافي الإيراني في الأرجنتين، بالتعاون مع أحد مدبري هجوم بوينس آيرس الإرهابي، ساعدا 4 رجال بينهم أحد مؤيدي رباني وهو مسؤول جوياني يدعى عبدالقادر، في التخطيط لتفجير أنابيب الوقود بمطار كينيدي الدولي في نيويورك.
ويقضي عبدالقادر حاليا عقوبة بالسجن مدى الحياة في الولايات المتحدة؛ لخطته المحبطة، والتي قتلت عددا لا يحصى من المدنيين إذا تم تنفيذها.
اتصالات سرية
تستند الاتهامات ضد كيرشنر على أكثر من 40 ألف تسجيل شرعي وأدلة أخرى، قام نيسمان بجمع الكثير منها، والتي تكشف عن القناة الخلفية السرية بين حكومة كيرشنر وإيران.
وبأوامر الرئيسة الأرجنتينية السابقة، استخدمت ومساعديها القريبيين القناة الخلفية للتفاوض على "مذكرة تفاهم عامة" لتأسيس "لجنة للكشف عن الحقيقة"؛ بهدف تحديد منفذي الهجوم بالتعاون بين الأرجنتين وإيران، وهو ما قال نيسمان إن الغرض منها محو مذكرات الاعتقال الصادرة عن الشرطة الدولية (إنتربول) ضد منفذي الهجوم.
وبذلت كيرشنر وحلفاؤها مجهودات كبيرة لتأسيس قناة الاتصال الخلفية، فعلى سبيل المثال في 2011 زار وزير خارجيتها تيمرمان سوريا في رحلة سرية للاتفاق على الخطة مع نظيره الإيراني آنذاك علي أكبر صالح، وتم الكشف عن هذه الرحلة في وقت مبكر من العام الجاري من قبل سفير أرجنتيني سابق لدى سوريا خلال شهادة بالمحكمة.
وما يؤكد تماما أن تواطؤ كيرشنر وتيمرمان مع إيران هو تسجيل صوتي للأخير يعترف فيه بمسؤولية إيران عن التفجير.
تعاون نووي
وشهد رامون آلان بوجادو، ضابط المخابرات الأرجنتينية الذي اتهم مؤخرا بالتواطؤ مع إيران، خلال جلسة بالمحكمة الشهر الماضي أن قناة الاتصال الخلفية تضمنت اتخاذ تدابير تزويد الأرجنتين لإيران بتقنيات نووية من خلال شركات أمامية في الأرجنتين وأوروجواي تنفذ عمليات نقل المعلومات.
وادعى بوجادو أيضا أن مسؤولين في أعلى المستويات بالحكومة الأرجنتينية كانوا على دراية بهذه الخطة، وهو ما إذا تم إثباته سيكون أسوأ مما اعتقد المدعي العام السابق نيسمان أن تحقيقه سيكشفه، وقد يكون توضيحا لماذا أراد بعض الأشخاص مقتله.
مصرع المدعي العام
قبل 3 سنوات، كان يستعد نيسمان للشهادة أمام البرلمان الأرجنتيني بدور كيرشنر في التستر على إيران، لكن قبل يوم من شهادته في 18 يناير/كانون الثاني 2015 عثر عليه ميتا داخل شقته في بوينس آيرس برصاصة في الرأس، رغم أنه كان لديه فريق أمني مكون من 10 أشخاص لحمايته.
وبعد العثور على الجثة بساعات، أعلنت الرئيسة السابقة كيرشنر أن نيسمان انتحر، وخلال الأيام اللاحقة ادعت أن موته كان جزءا من شجار متعلق بقصة حب، لكنها غيرت قصتها مرة أخرى قائلة إن موته قد يكون على يد رجال مخابرات فاسدين.
وأشار المقال إلى أن موت نيسمان كان خبرا مرعبا، لكنه لم يكن صادما، فأي شخص كان يتابع عمل نيسمان وسعيه في القضية كان على علم بأنه في خطر محدق بمواجهته لإيران الدولة الإرهابية وكذلك الحكومة الأرجنتينية نفسها.
وأضاف المقال أيضاً أن نيسمان تلقى تهديدات بالقتل ليس فقط ضده بل ضد أطفاله أيضا خلال العقد الذي استمر فيه تحقيقه، وكان أحد التهديدات يظهر فيه صورة جثث دامية على الأرض بتحذير يقول: "هذا سيكون مصير فتياتك إذا لم توقف تحقيقك".
وعملت كيرشنر وحلفاؤها على إعاقة تحقيق العدالة واكتشاف الحقيقة وراء مقتل نيسمان لسنوات، حتى من 3 شهور فقط في عهد الرئيس الجديد ماوريسيو ماكري عندما تم فتح تحقيق جديد من قبل الشرطة الأرجنتينية، والذي خلص إلى أن نيسمان تم تخديره بالكيتامين، وهو عقار يستخدم لتنويم الحيوانات، ثم ضربه بوحشية قبل إطلاق رصاصة على رأسه.
وبغض النظر عما سيحدث لكيرشنر فيما يخص التهم الموجهة لها بالخيانة، فإن الأرجنتين حاليا على مسار الإصلاحات بعد أكثر من عقدين من الظلم المتنامي، حيث هجر الرئيس ماكري التاريخ المحرف الذي خلفته الرئيسة السابقة بخصوص تفجير 1994، كما يدعم تحقيقا مستقلا يهدف أخيرا للتعرف على ملابسات مقتل نيسمان.
إلا أن ماكري أمامه المزيد من التحديات، فكما وثق نيسمان في تحقيقه فإن إيران و"حزب الله" الإرهابي اخترقوا أمريكا اللاتينية، وما زالوا يشكلون تهديدا خطيرا على الأمن في الأرجنتين والمنطقة والولايات المتحدة الأمريكية.