النظام الإيراني يخالف كل التطور الدولي الذي يشهده العالم، ويبدو نشازاً في الحراك الحضاري والتاريخي للبشرية
انتفاضة إيران تنتشر ولا تتقلص، تتوسع ولا تضيق، تقوى ولا تضعف، وكأن الجميع في لحظة انتظارٍ، فالمرشد الإيراني الأعلى يتحدث عن أنه سيتحرك "عندما يحين الأوان" والرئيس الأميركي الرافض لكل سياسات سلفه أوباما تحدث أيضاً عن أن الشعب الإيراني سيحظى بدعمٍ أميركي عظيمٍ «حين يحين الأوان».
وقد تحدثت تركيا بدعمٍ صريحٍ للنظام الإيراني ضد شعبه، وقدمت قطر دعماً مادياً كبيراً للنظام ضد الشعب، وقد اتخذت فرنسا خطواتٍ لتفادي دعم النظام، وعبّرت بعض الدول الأوروبية عن مواقف تنفي عن نفسها دعم النظام، وقد اضطرت بعض وسائل الإعلام الغربية إلى الانحياز إلى الشعب الإيراني بعد فترة انتظارٍ لعدة أيامٍ، ما يوحي بأن الكثيرين قد اختاروا الانتظار لرؤية ما سيحدث، ولمعرفة التطورات التي ستجري، والمواقف تتطور بتطور الأحداث.
بعيداً عن المقارنات بين 2009 و2018 فإن النظام الإيراني يخالف كل التطور الدولي الذي يشهده العالم، ويبدو نشازاً في الحراك الحضاري والتاريخي للبشرية، ويبدو غريباً عن المنطق الطبيعي لتطور الدول، ودون استحضارٍ لدرجة تنوع الشعب مقارنة بوحدة النظام، فإن النظام الإيراني أمام لحظة تاريخية يجب عليه فيها اتخاذ القرار الصحيح، وهو في الحقيقة عاجزٌ عن ذلك بحكم طبيعته.
مثل سقوط هتلر، فسقوط نظام الملالي في إيران سيكون خيراً كبيراً للبشرية، ولحظة سقوطه ستكون من أنصع أوراق التاريخ المعاصر بياضاً
دون شكٍ، سيلجأ النظام الإيراني لأسلوب القمع وتعزيزه وكثافته، والتجديد في أساليبه وطرقه، والتفنن في القضاء على الشعب وتدميره، فهذا ما أنقذ النظام طوال تاريخه، وسيلجأ إلى كافة الحيل التي تجعل من معارضيه معارضين للدين والإسلام والتشيع، ولكنه ينتظر، ليعرف حجم «المؤامرة» كما يسميها، وليعيد حساباته، بين الدعم السخي لكل حركات الأصولية والإرهاب، والمليشيات التي حاول بها فرض الهيمنة والنفوذ الإقليمي وبين الإفقار الدائم للشعب الإيراني، وطمس كل هوياته وأعراقه ومذاهبه، وأيضاً، ينتظر لمعرفة مدى قوته في الداخل وسيطرته على كل مناطقه ومحافظاته ومدنه وأريافه، ولكنه ينتظر.
ثمة صامتٌ كبيرٌ فيما يجري، هو دول الاعتدال العربي التي تقودها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية وحلفاؤها من الدول العربية ودول المنطقة، وهو صمتٌ يمنع أي افتراء قد يلجأ إليه النظام الإيراني باتهام شعبه بأنه يتم تحريكه من الخارج ضد الدولة الإيرانية، وفي الواقع أن أحداً لا يتآمر على النظام الإيراني أكثر مما يفعله هو ضد نفسه، فالآيديولوجيا لا تطعم خبزاً، والشعارات لا تؤمّن مسكناً والمزايدات لا توفر أي شكلٍ من أشكال الحياة الكريمة.
حصاد ما يقارب العقود الأربعة من استحواذ نظام الملالي على السلطة في إيران يحكي انحداراً متصلاً على كافة المستويات، فيما يتعلق بالاقتصاد والتنمية والبنى التحتية والخدمات المقدمة للمواطن، فتفشى الفقر والمرض والجوع والأمية والتخلف، وفتكت هذه الأوبئة بالشعب الإيراني، فالنظام الشاخص البصر إلى الأفق البعيد ينتظر مخلصاً من نوعٍ ما لا يبصر أنه يدهس مواطنيه بأحذية أنظمته الأمنية والعسكرية، من حرسٍ ثوري إلى باسيج، ومن مخابراتٍ إلى عشرات التسميات للمليشيات التي يسلطها على الشعب، والتي زاد منها وطوّرها بعد 2009.
في حال أصرّ الشعب الإيراني على انتفاضته، وتجاوزت دول العالم والمؤسسات الدولية عقدة الانتظار، وأقدمت على تقديم دعمٍ حقيقي للشعب، وتراكمت كل العناصر المطلوبة لإنهاء هذا النظام الديكتاتوري الأصولي الإرهابي فإن هذا سيكون أضخم الأحداث التي شهدها القرن الواحد والعشرون، لأنه سيشكّل بداية حقيقية لإنهاء الصراع الآيديولوجي كمركزٍ للصراع الدولي، بأصولية هذا الصراع وإرهابه ومفاهيمه وحركاته ومليشياته، وإخراجها من المعادلات الإقليمية والدولية.
مثل سقوط هتلر، فسقوط نظام الملالي في إيران سيكون خيراً كبيراً للبشرية، ولحظة سقوطه ستكون من أنصع أوراق التاريخ المعاصر بياضاً وأكثرها إشراقاً، فأربعون عاماً من الشر المستطير الذي كان ينشره ويرعاه ويدعمه ويخطط له، ستنتهي تحت مطالب الشعب الإيراني نفسه بالحق والعدل والعيش الكريم، وستتهاوى بعده حركاتٌ وتنظيماتٌ حول العالم أجمع وليس في المنطقة وحسب.
أسعد الدول بهذه الانتفاضة هي الدول التي لطالما تبجّح النظام الإيراني بأن مليشياته تحكمها، وأنها تشكّل أوهام توسعه وأحلام بسط نفوذه في المنطقة، وعلى رأسها الدول العربية الأربع الأكثر تضرراً؛ العراق وسوريا ولبنان واليمن، مع قطاع غزة، حيث رأت شعوب تلك الدول الويلات إثر الويلات من دموية وعنف مليشياته وجماعاته الشيعية والسنية التي صبّها عليهم.
دون انسياق خلف آمالٍ لم تنضج بعد، ودون أي تقليلٍ من شأن انتفاضة الشعب الإيراني، إلا أن مجرد تصورٍ سريعٍ لبعض الآثار الجانبية لنجاح هذه الانتفاضة فإن حزب الله اللبناني - على سبيل المثال - محترف القتل وممتهن العنف وناشر الطائفية، ومدرب الإرهاب وتاجر المخدرات و«شبيح» إيران الأول في المنطقة، سيجد نفسه عارياً في الداخل اللبناني، فضلاً عن أدواره الأخرى في المنطقة، ومليشيات الحوثي ستنهار انهياراً لا قيام لها بعده، والمليشيات التي تقتل الأطفال والعجائز في العراق وسوريا ستنكسر، وستتنفس هذه الشعوب العربية الصعداء وتنعتق من تلك المليشيات، وستستطيع الدولة استعادة سيادتها وفرض هيبتها داخل حدودها، فهل بعد كل هذا الخير من خير؟.
كل نجاح لانتفاضة إيران يسبب ضعفاً في قوة النظام، ذلك أنها تضرب قوة النظام في عقر داره، وفي مركز حكمه وفي دولته الأصلية، فيضطر مُجبراً للانسحاب من كل مغامراته غير المحسوبة في المنطقة، ويتخلى ذليلاً عن كل أوهام التوسع وبسط النفوذ، وتسقط فكرته الآيديولوجية الكبرى.
«استقرار الفوضى» كان استراتيجية إيرانية بالغة التأثير، وبخاصة بعد الربيع الأصولي في بعض الدول العربية، وسقوط المفهوم وفشل الاستراتيجية هو نجاحٌ للنموذج المقابل وهو «استقرار الدولة» الذي تمثله الدول العربية القائدة لمحور الاعتدال في السعودية والإمارات والبحرين ومصر والأردن والمغرب وغيرها.
تأذت دول الخليج طويلاً من إرهاب النظام الإيراني وخلاياه في هذه الدول، إن خلايا الإرهاب السنية والشيعية وإن خلايا التجسس، وبالذات في البحرين والسعودية والكويت، ذلك أن هذا النظام كان يسرق لقمة العيش من أفواه شعبه ويدفع ثمنها لكل مرتزقة العالم؛ للإضرار بدول الخليج والدول العربية والعالم أجمع.
أخيراً، لا أحسب أن يختلف اثنان على أن سقوط هذا النظام يمثّل مصلحة كبرى للبشرية، وأن أي أضرارٍ ناجمة عن سقوطه هي أضرار يمكن احتواؤها وهي بالتأكيد أقل كلفة من بقائه واستمراره.
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة