لا يوجد بريق أمل في تطويق ظاهرة الاغتيالات السياسية إذ لا توجد مراكز دراسات حكومية ولا مراكز أكاديمية من أجل دراستها
أصبح الموت مألوفاً في بلاد الرافدين هذه الأيام، ولعل فداحة هذا الموت تتمثل في اغتيال الأدباء والمثقفين العزل. فلم يتجرأ حتى النظام الديكتاتوري على اغتيالهم في وضح النهار مثلما حصل في الأسبوع الماضي في قتل الروائي والأستاذ الجامعي الدكتور علاء مشذوب، الذي قُتل بدم بارد وعلى يد مسلحين مجهولين، وذلك على إثر تغريداته ومقالاته وآرائه، وخاصة في نقد المليشيات والنظام الإيراني سواء بالمقالات على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، أو في رواياته الأخيرة. مما لا شك فيه هو أن أصابع الاتهام موجهة إلى إيران، التي نشرت مؤخراً فرق اغتيالات لإسكات منتقديها. كما ظهرت من خلال الخطابات المتطرفة للمليشيات المناصرة لها مثل سرايا الخراساني وكتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وغيرها من المليشيات التي وصلت إلى 67 مليشيا. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة طالبت مؤخراً بحلها وتفكيكها لكنها لا تزال فاعلة على الأرض العراقية، وتعمل بإمرة قاسم سليماني، قائد ما يسمى بـ"فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني". تعمل هذه الفرق على إسكات الأصوات العراقية المنتقدة للنظام الإيراني الذي تغلغل في العراق. وشهدت الانتخابات الأخيرة عرقلة مساعي هذا النظام لفرض نفوذها على الحكومة العراقية، وفشلها في دعم مرشحين تابعين لها، والتهديد بإنهاء النفوذ الإيراني.
لا يوجد بريق أمل في تطويق ظاهرة الاغتيالات السياسية إذ لا توجد مراكز دراسات حكومية ولا مراكز أكاديمية من أجل دراستها أو التحقيق فيها، بل هناك رفض قاطع لإعطاء أية إحصائية وطنية عن عمليات الخطف والاغتصاب والقتل
إن جريمة اغتيال الكاتب والناشط علاء مشذوب أعادت إلى الأذهان الجرائم التي شهدها العراق خلال العامين الماضيين، والتي استهدفت الأدباء والمثقفين والفنانين، منها اغتيال الممثل المسرحي كرار النوشي، فضلا عن عارضة الأزياء العراقية تارة فارس، والناشطة الحقوقية سعاد العلي، إضافة إلى صاحبتي مركزي التجميل رفيف الياسري ورشا الحسن، في ظروف غامضة، مما زاد وأجج من الأزمة العراقية. والعجيب في هذا الأمر أن الحكومة والمؤسسات التابعة لها من وزارة الثقافة وغيرها تصدر بيانات إدانة لهذه الاغتيالات، وكأن هذه المليشيات ليست جزءاً من السلطة، بل تحركها إرادات السياسيين والأحزاب الدينية والطائفية. تشير هذه الاغتيالات إلى فوضى مراكز القوى بين المليشيات والأحزاب الدينية، وتحوّل العراق إلى ساحة للجرائم المفتوحة التي تحركها الشعبوية والطائفية. وكالعادة وفي جميع الاغتيالات التي وقعت، ظل القاتل غامضاً رغم تعدد الأجهزة الأمنية العراقية العاجزة أمام قوة المليشيات المتسلطة.
تمكنت الخطابات الطائفية من تهميش الهوية الوطنية العراقية، وإحلال مفاهيم جديدة بدلاً منها، وهي منطق نشر ظاهرة الاختطاف والقتل وجبابة الفدية، في ظل الفساد القضائي. هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها وهي منهج القتل المخطط له الذي ساد الساحة العراقية عام 2003 بدءاً بتصفية أنصار نظام صدام حسين، من بعثيين ورجال أمن وضباط عسكريين وطيارين، إلى الأدباء والمثقفين والفنانين. فقد أسس النظام الجديد لظاهرة العنف في الصراع على السلطة، حتى امتد إلى اغتيال الرموز الشيعية والحكومية مثل عبدالمجيد الخوئي، ومحمد باقر الحكيم، وعقيلة الهاشمي، وعز الدين سليم. وأدى ذلك إلى بروز ظاهرة الاحتجاج السياسي والاجتماعي في المدن العراقية، وخاصة المحافظات السنيّة، التي قُمعت بعنف مفرط. إن الاختطاف والاغتيال هو محصلة طبيعية لدولة منهارة في ظل التمزق السياسي والاجتماعي والتدخلات الخارجية، واختطاف القرار الأمني من قبل مليشيات وفصائل وأحزاب دينية. وتبدو المنظمات الحقوقية والمدنية مشلولة، ولا تفعل شيئاً سوى إصدار بيانات الاستنكار لأن "الإفلات من العقاب" أصبح أمراً اعتيادياً في أجواء ترهيب المجتمع المدني بتواطؤ السلطة مع المليشيات. ولا بد من الإشارة إلى أنه لا يوجد قانون يعمل على تجريم المليشيات الإرهابية، بل تعتبر بعض فصائلها تابعة لرئاسة الوزراء مثل الحشد الشعبي.
القضاء العراقي هو الآخر يعاني من الفساد، ولم يسبق أن تم تقديم أي من الجناة الذين مارسوا الاختطاف والاغتصاب وجباية الفدية والقتل إلى المحاكمة، وهذا ما ساهم في زيادة وتيرة هذه العمليات الإجرامية. كما أن انتشار فوضى السلاح سبب آخر في تنامي ظاهرة العنف والتطرف والتوحش بحيث باتت المليشيات المسلحة أقوى من الدولة والسلطة، وتمارس إرهاباً ممنهجاً لا يقل عن إرهاب "داعش" إلا في التسميات، بل هي تستخدم نفس آلياتها في التعصب والإرهاب.
إن استيراد السلاح في غالبيته يُستخدم ضد الأصوات العلمانية المطالبة بتأسيس "الدولة المدنية"، من خلال السعي لإخضاعها إلى رؤية المليشيات الشعبوية والمتطرفة من أجل بناء مجتمع أحادي الرؤية، مغلق يؤمن بذات المقولات الدينية المتطرفة التي يدين بها "الإسلام الجهادي" على أساس عنصري وطائفي ومناطقي. وقد أدى هذا التوجه إلى إفراغ المدن العراقية من القيم المدنية والديمقراطية سواء من خلال محاربتها أو هدم مدنها ومحافظاتها، تسهيلاً لحلم الانقضاض على السلطة كاملة.
وفي هذه الأجواء الخانقة، لا يوجد بريق أمل في تطويق ظاهرة الاغتيالات السياسية إذ لا توجد مراكز دراسات حكومية ولا مراكز أكاديمية من أجل دراستها أو التحقيق فيها، بل هناك رفض قاطع لإعطاء أية إحصائية وطنية عن عمليات الخطف والاغتصاب والقتل. ولا يزال القضاء يصنّف جريمة الاغتيال من ضمن جرائم القتل العمد أو القضاء والقدر. وهذه الأوضاع أدت إلى هروب الكفاءات والخبرات إلى خارج البلاد. إن وقفات الأدباء والمثقفين الاحتجاجية التي تطالب بالكشف عن الجناة لا يمكن أن تنجح في ظل هذه الظروف، وهذه جريمة أخرى ستسجل ضد مجهول. لذا لن يكون الروائي علاء مشذوب، وللأسف الشديد، آخر الضحايا، ولن تتوقف ظاهرة اغتيال الأدباء والمثقفين كلما علت أصواتهم في إدانة ثقافة الطائفية والتوحش والعنف وتهميش الآخرين، وما دامت تساندها جهات أجنبية معروفة، تجني ثمارها السياسية من هذه الفوضى التي لم تكن خلاّقة أبداً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة