المشكلة القائمة في العراق هي أن أبطال الفساد هم من السياسيين والأحزاب الدينية المتسلطة
ينتظر العراقيون عاماً بعد آخر لكي يخرج بلدهم من لائحة الفساد في منظمة الشفافية والنزاهة الدولية، ولكن في كل عام تخيب الآمال ويجدون بلدهم في أول السلم، وهي نتيجة لا تشّرف ولا يمكن أن يفتخر بها أحد خاصة لبلد وصلت ميزانيته السنوية هذا العام إلى 133 تريليون دينار، أي نحو 112 مليار دولار، وبعجز مالي قدره 19 مليار دولار بواقع سعر النفط للبرميل الواحد 56 دولاراً.
لقد أصبح الفساد مؤسسة بحد ذاته، وتحول إلى نوع من السرطان الذي لا يمكن السيطرة عليه بعد انتشاره في جسد العراق وروحه، بل تحولت الرشوة إلى أمر طبيعي في جميع نواحي الحياة.
المشكلة القائمة في العراق هي أن أبطال الفساد هم من السياسيين والأحزاب الدينية المتسلطة، ولا تملك حتى هيئة النزاهة العراقية أية سلطة في التحقيق في ملفات الفساد، إن الجميع عاجز عن إيقاف هذه العجلة الساحقة
في الواقع.. إن انتشار مؤسسات الشفافية والنزاهة أصبح عصب الحياة، فهي كالجيوش التي تحمي أوطانها تماماً من الفاسدين، لأنها تدرك مخاطر هذه الآفة لو انتشرت، وتعمل هذه المؤسسات على اقتلاعهم من جذورهم لأنهم يشكلون خطراً مستداماً على كيان أية الدولة.
أما في العراق، بدلاً من تشكيل مؤسسات الشفافية والنزاهة في العراق توالدت مؤسسات الفساد كشبكات العناكب، لكي تخنق أنفاس الحياة الاجتماعية والاقتصادية في بلد لا يزال اقتصاده يعتمد على الريع، ولولا تفشي الفساد لوجدت الكثير من القضايا طريقها إلى الحل مهما كانت طبيعة الحكم.
يتصدر العراق قائمة الفساد كل عام بجدارة، بل يفوق حتى الصومال أحياناً، وهو يشكل خطراً في انتقال الأموال غير القانونية إلى يد الإرهاب بسهولة، وحسب المنظمة الدولية للشفافية والنزاهة فتصدر العراق جاء مجدداً في المرتبة الأولى من حيث الفساد بين دول العالم، فيما كانت هناك 6 دول عربية ضمن قائمة تضم 12 دولة هي الأكثر فساداً في العالم، المشكلة القائمة في العراق هي أن أبطال الفساد هم من السياسيين والأحزاب الدينية المتسلطة، ولا تملك حتى هيئة النزاهة العراقية أية سلطة في التحقيق في ملفات الفساد، إن الجميع عاجز عن إيقاف هذه العجلة الساحقة.
يعترف الجميع بأن النخبة الحاكمة فشلت في تحقيق أبسط احتياجات المجتمع في العراق، ولم تنجح في معالجة الانقسامات السياسية والاجتماعية بل زادت منها، حتى بعد الانتصار على داعش وتدمير الموصل والأنبار وغيرهما من المحافظات، كما لا يزال داعش يشكل تهديداً خطيراً لأن الساسة العراقيون لم يقضوا على الظروف التي أدت إلى ظهور هذا التنظيم الإرهابي وسط تناحراتهم الحزبية والصراع على السلطة، ولا تزال الحكومة عاجزة عن تعيين وزيري الداخلية والدفاع؛ لأن جميع الأحزاب الدينية تسعى بطمع للظفر بهما لأنهما يوفران السلطة والمال لها.
انتظر العراقيون أكثر من 15 عاماً أملاً في الاصلاح، فمتى سيتحقق ذلك؟ تعاني الموازنة العراقية من العجز، وتتراكم الديون لدرجة أن فوائدها أصبحت تقدر بالمليارات، وهي الشبح الذي يهدد الأجيال القادمة، ولا تزال البصرة منكوبة، في حين أنها تمتلك أكبر احتياطي نفطي أي 80% من صادرات العراق، وتدر لوحدها أكثر من 7 مليارات دولار للخزينة الحكومية، لكنها لا تزال تفتقر إلى الماء والكهرباء والبنية التحتية والمدارس والمستشفيات والخدمات الأساسية الأخرى، كان من المفترض أن تكون البصرة أغنى محافظة بالعراق لكنها من بين أفقرها. ومثل الكثير من مدن العراق تفتقر البصرة إلى المياه النظيفة والكهرباء والوظائف.
في غياب المؤسسات الحقيقية لا تخضع مناطق كثيرة لسلطة الحكومة وسيطرتها، خاصة في الجنوب ذي الغالبية الشيعية، إذ تتقسم السلطة بين الأحزاب والمليشيات والقبائل ورجال الدين، ولا تخضع المليشيات -التي وصل عددها إلى 67 تنظيماً- لسيطرة "الدولة"، لكنها متحصنة داخل مؤسساتها وتستغل مواردها.
هل تنذر الأوضاع بنشوب صراع بين الحكومة وبين هذه المليشيات التي على الرغم من دمجها مع الحكومة وتحويلها إلى جزء من مسؤولية رئاسة الوزراء، إلا أنها تشكل كيانات خاصة وتتجاهل الحكومة وتعمل ضمن آلياتها الخاصة، ولا تزال تؤمن بأن طريقها يختلف عن طريق الجيش التقليدي، كما أنها تعزز من قوتها من خلال استمدادها من المرجعية الدينية التي تملك الكلمة الفاصلة في السياسية، رغم تظاهرها بالاستقلال عنها؟ هل يمكنها أن تكون مستقلة حقاً من أجل إنقاذ العراق أم أنها لا تزال تقدم الوعود الفارغة؟
وفي العودة إلى آفة الفساد والموازنة الحالية، يبرز السؤال الجوهري: كم من مليارات الدولارات مخصصة للتنمية وإعادة بناء المحافظات المنكوبة؟
سوف تصرف هذه الميزانية الفلكية على الأعمال التشغيلية التي لا علاقة لها بالتطور والبناء، فالعراق تتحكم فيه تنظيمات جرارة من المليشيات وقوى العشائر وغيرها التي تأكل الأخضر واليابس من هذه الموازنة، ولم تحصل المحافظات المنكوبة مثل الموصل والأنبار وتكريت وديالي وحتى محافظات الجنوب الشيعية من موازنة 2019 سوى الفتات الذاهب إلى جيوب الفاسدين.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه العراقيون بارقة أمل في الأفق في أن يخرج بلدهم من لائحة الفساد في ميزان الشفافية الدولية، يطرح هذا التساؤل: إلى متى ستتجاهل الساحة والأحزاب الدينية في العراق هذه النتيجة؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة