إن انعكاسات العقوبات الأمريكية على إيران لا تظهر بعجالة على العراق، بل تستغرق زمنا معينا، وهو امتحان لجميع القوى العراقية
هل العراق محكوم بالجغرافيا أم بالتاريخ؟ سؤال يتبادر إلى ذهن كل من يفكر بخروج العراق من أزمته الخانقة التي فشلت الحكومات المتعاقبة على حلها. في واقع الأمر الجغرافيا معضلة العراق الأولى، ولعل جولة الرئيس العراقي الجديد برهم صالح في الكويت والإمارات العربية المتحدة والأردن والسعودية وإيران تصب في هذا المجال، لأنه لا يمكن أن يتجاهل محيطه العربي ولا يمكن أن يغض الطرف عن إيران التي حفرت عميقا في العراق منذ الاحتلال الأمريكي، لكن هذه الزيارة تبقى باهتة ما لم تتحرك الكتل والأحزاب السياسية المتحكمة، والتي بيدها مفاتيح الحل، لأن النظام "البرلماني" يقر بعدم تأثير الرئيس السياسي لأنه منصب بروتوكولي.
إن انعكاسات العقوبات الأمريكية على إيران لا تظهر بعجالة على العراق، بل تستغرق زمنا معينا، وهو امتحان لجميع القوى العراقية، وسيبرز هنا تياران، تيار القوى التي تقف مع استقلالية القرار العراقي، وتيار القوى التي تقف مع إخضاع القرار العراقي لإيران.
يتجسَّد التغلغل الإيراني في العراق في شكل مؤسسات خيرية وثقافية وعسكرية منذ عام 2003، وقد استفادت إيران من الفراغ الذي جاء على أعقاب سقوط النظام السابق، وعرفت كيف تنشر أذرعها في أنحاء العراق كافة، بأشكال متنوعة تُخفي وراءها الأهداف الاستراتيجية العميقة، ولا مجال هنا لذكر هذه المؤسسات وتعدادها لأنها فاقت كل التصورات، وأكبر تجلياتها هي: فيلق القدس الذراع العسكري، وبنك ميلي والبنوك الموالية لإيران التي تعمل على تقديم التسهيلات المالية، ولها أدوارها في تثبيت الوجود الإيراني عبر عمليات غسيل أموال وتمويل العمليات الإرهابية، وقد وصل حجم التبادل التجاري إلى نحو 20 مليار دولار، وهو عبارة عن استيرادات العراق للمنتوجات الإيرانية لا أكثر.
والسؤال المطروح الآن: هل سيحافظ حجم هذا التبادل التجاري على حاله بعد سريان العقوبات الأمريكية على إيران؟
إن الوجود الإيراني في العراق حمل سمات سلبية كثيرة، لأن همه ينصب على تصريف بضاعتهم ومنتوجاتهم الزارعية والحصول على العملة الصعبة؛ ولهذا عمدت إيران إلى إضعاف الزراعة في العراق، وذلك من خلال قطع نحو 42 نهرا وجدولا ينبع من أراضيهم، وحولوا أجزاءً كبيرة من الأراضي الخصبة إلى أرض جرداء؛ ما أدى إلى هروب سكان القرى إلى المدن بحثا عن لقمة العيش، لكن العقوبات الأمريكية فرصة أمامهم للابتعاد عن التأثيرات الإيرانية، وخاصة في مجالات الغذاء والكهرباء والماء، وهذا سيؤدي إلى ظهور فئتين، الأولى تصرخ بصوت عالٍ ضد العقوبات الأمريكية على إيران، وفئة أخرى تقف معها، لكن تخوّف إيران يأتي من عودة الوعي إلى السياسيين العراقيين من أجل إعادة بلدهم إلى محيطه العربي والإقليمي والعالمي، فالعلاقة مع إيران لا تزال ملتبسة وغامضة وغير متوازنة، وكأن العلاقة بينهما تشبه قاطرة تسحب قاطرة أخرى، فإن تخلفت واحدة تتخلف معها الأخرى؛ ومن هذه النتائج سوف تتأثر معامل تجميع سيارات "سايبا"، وجميع المنتوجات الإيرانية التي تغرق السوق العراقية بالسلع والمنتوجات، وهذه الحالة ستتيح للعراقيين الانفتاح على الأسواق الخليجية والتركية.
إن الضرر سيصيب كل من يقف في وجه العقوبات الأمريكية على إيران، وإذا ما وقف العراق إلى جانب إيران، فإن الضرر سيلحقه لا محالة، ولعل الطريق إلى الخروج من أزمته الخانقة هو استقلالية القرار العراقي، بعيدا عن الضغوطات الحزبية التابعة للنفوذ الإيراني، وأغلبها أحزاب دينية ومذهبية، وخاصة حزب الدعوة المرتبط بإيران مباشرة و"المرشد" علي خامنئي. لذلك؛ يكمن الخطر في هذه الأحزاب الموالية لإيران في ممارستها للفساد الذي مهّد إلى ظهور أشكال التطرف -داعش وأخواتها- وانتشار البطالة، وانعدام الخدمات، وغيرها.
لا يوجد طريق أمام العراق سوى التحرر من النفوذ الإيراني بأي شكل من الأشكال، والتخلص من هيمنة الأحزاب الدينية المذهبية والطائفية من كلا الطرفين، ومن فكرة ولاية الفقيه التي أوصلت العراق إلى نهب ثرواته وانتهاك حقوقه؛ لذلك تتخوّف هذه الأحزاب الدينية من دعاة تشكيل الدولة المدنية، لأنها تقضي على امتيازاتهم وخططهم وتجارتهم الدينية المتمثلة بزيارات الإيرانيين.
إن انعكاسات العقوبات الأمريكية على إيران لا تظهر بعجالة على العراق، بل تستغرق زمنا معينا، وهو امتحان لجميع القوى العراقية، وسيبرز هنا تياران، تيار القوى التي تقف مع استقلالية القرار العراقي، وتيار القوى التي تقف مع إخضاع القرار العراقي لإيران، وفي كل الأحوال تتعامل إيران مع العراق من منطلق الفوقية، فهي لا تتردد في معاقبة العراق بقطع الكهرباء عنهم، وكذلك الأنهار، حتى في ظل الظروف الجيدة ظاهريا بينهما.
والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح:
هل يغامر العراق بالتضحية بعلاقاته مع محيطه العربي والإقليمي والعالمي من أجل إيران؟
على سلسلة الأحزاب والتشكيلات والمليشيات المرتبطة بطهران أن تقرر في أي خنذق تقف، وهذا هو الامتحان العسير، علما أن التظاهرات التي خرجت في البصرة قالت كلمتها بصراحة: لا للتدخل الإيراني في شؤون العراق.
إن التغلغل الإيراني يتغوّل يوما بعد آخر، ليس في العراق وحده وإنما في سوريا ولبنان واليمن كما هو معروف، وهو يسير ضمن استراتيجية يعتمدها النظام الإيراني من أجل الهيمنة على المنطقة، ولاسيما على منطقة الخليج، وبالتالي استخدام هذا النفوذ على المسرح العالمي.
لا حل أمام العراق سوى التعلق بالهوية العراقية والابتعاد عن المعتقدات العرقية أو الدينية المذهبية، وهو حل كفيل بإيجاد الحلول الناجعة لكثير من المعضلات، وعلى إيران أن تفهم أن عراق اليوم لم يعد عراق الأمس، لأن هناك تغييرات حصلت في وعي كتل وأحزاب عديدة بعد أن خاضوا التجربة مع إيران، ويمكن للعراقيين أن يستفيدوا من العقوبات الأمريكية على النظام الإيراني في إيجاد اقتصاد جديد لا يعتمد على المبدأ الريعي، بل على مبدأ الاستثمار الحقيقي، وخاصة مع محيطه العربي الذي يتميز بتفوق منتجاته وسلعه على النوع الإيراني، إنها فرصة العراق الذهبية في التخلص من علاقة لم تفعل سوى زيادة عزلة العراق، وإغراقه في مشاكل خانقة لن يخرج منها بسهولة مع التغييرات الحاصلة في المشهد السياسي العالمي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة