الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان وداخل إيران نفسها تمثل جرس إنذار للنظام الإيراني
الاحتجاجات الشعبية التي يشهدها العراق ولبنان منذ عدة أسابيع، والتي امتدت لتشمل إيران نفسها هذا الأسبوع يحركها دافع واحد وهو رغبة شعوب هذه الدول في استرداد حقها في التنمية والحياة الكريمة بعيداً عن الحسابات الطائفية والمصلحية الضيقة للقوى الحاكمة والمهيمنة في هذه البلدان، التي ضاقت بها هذه الشعوب ولم تعد تتحملها.
من حق هذه الشعوب أن تنعم بالتنمية والاستقرار، ولاسيما أنها تمتلك الموارد التي تساعدها على تحقيق هذا الهدف، لكن نظم الحكم والإدارة السائدة في هذه البلدان، البعيدة عن الحوكمة والرشادة، والمغلبة للاعتبارات الطائفية والمصلحية، ضيعت على هذه الشعوب الكثير من الفرص الهائلة التي كان يمكنها أن تضع هذه البلدان في مصاف الدول المتطورة التي تنعم شعوبها بالرخاء والازدهار.
لا أحد يرغب في تصعيد التوتر مع إيران أو خروج الوضع في إيران والمنطقة عن السيطرة، ولكن المهم أن يكون النظام الإيراني مقتنعا بأن مواصلة النهج الحالي لن يحقق له أية مكاسب استراتيجية، وإنما سيبقيه في دائرة العزلة والعقوبات، وسيزيد من الضغوط الخارجية والداخلية عليه.
في خلفية المشهد الاحتجاجي في الدول الثلاث، تقف إيران وسياساتها المثيرة للتوتر في قفص الاتهام كدافع لهذه الاحتجاجات وهدف لها في الوقت ذاته، فتدخلاتها الفجة والواضحة في العراق ولبنان عبر وكلائها في البلدين، أثارت استياء قطاع واسع من الجماهير التي بدأت تحملها مسؤولية ما آل إليه الوضع المعيشي والإنساني والأمني في البلدين، ولاسيما مع تصدر المليشيات الموالية لها المشهد في البلدين، ولذا نددت الاحتجاجات الشعبية في البلدين بالتدخل الإيراني في شؤونهما، وفرض الوصاية الإيرانية على مقدراتهما عبر وكلاء منتفعين، ولا تزال هذه الاحتجاجات الشعبية متواصلة مستهدفة النفوذ الإيراني في الأساس، وخاصة في العراق.
وفي إيران نفسها، ضاقت الجماهير بالسياسات الفاشلة للنظام القائم، ومغامراته غير المحسوبة، وإنفاقه مليارات الدولارات لدعم جماعات وقوى طائفية ومتطرفة في بلدان أخرى لتحقيق نفوذ خارجي مزعوم على حساب حق الشعب الإيراني في التنمية والرخاء، فخرجت الجماهير الإيرانية مطالبة بحقها في التنمية، وفي توجيه موارد البلاد إلى خدمة مصالح شعبها ورفاهيته وازدهاره، وهذه الاحتجاجات ليست الأولى من نوعها، فقد رصدت دراسة أصدرها مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الأمريكي، مؤخرًا، ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الاحتجاجات الشعبية في إيران، خلال العامين الماضيين، حيث وصل عددها إلى نحو 4200 احتجاج في الفترة من دیسمبر 2017 إلى أكتوبر 2019، لكن الاحتجاجات الحالية تحمل رمزية كبيرة بالنظر إلى أن الجماهير في داخل إيران رفعت شعارات منددة برموز النظام الإيراني، وأنها لم تعد مقتنعة بمبررات هذا النظام وشعاراته الطائفية والأيديولوجية لتبرير الوضع المعيشي السيئ للشعب الإيراني.
الاحتجاجات الشعبية في العراق ولبنان وداخل إيران نفسها تمثل جرس إنذار للنظام الإيراني ورسالة واضحة بأن سياساته التدخلية، لم تعد تلقى قبولاً أو تأييداً شعبياً حتى داخل الدول التي تفاخرت طهران في السابق أنها تسيطر على عواصمها، كما أنها لم تعد تلقى قبولا شعبياً حتى داخل إيران نفسها، فالشعب الإيراني كغيره من شعوب العالم يحتاج إلى التنمية والتقدم، وهذا لن يحدث إلا بتركيز قيادته على التنمية في الداخل، وترك المغامرات غير المحسوبة في الخارج، وبناء علاقات بناءة تقوم على الثقة والاحترام المتبادل مع مختلف دول العالم، وفي مقدمتها دول الجوار الخليجي.
وحتى الآن لا يبدو أن طهران قد استوعبت الدرس، فهي تصر على وصف الاحتجاجات الشعبية في العراق وفي لبنان وفي داخل إيران بأنها مؤامرة مدفوعة من الخارج، وتحاول تحريك أذرعها ومليشياتها لمواجهة هذه الاحتجاجات وقمعها، ولا تبدي أي مؤشر على الاعتراف بخطأ سياساتها، أو بمسؤوليتها عما آل إليه الوضع في داخلها، وفي المنطقة ككل، وهو ما يعني أنها ستواصل المضي قدماً في النهج ذاته، ولاسيما في ظل قناعة النظام الإيراني، وبعض المروجين له، بأن سياسة العقوبات والضغط الأمريكية قد فشلت في إجبار طهران على تغيير سياساتها.
لكن الإصرار الإيراني على عدم تغيير النهج قد تكون عواقبه أكثر خطورة في المستقبل، ولاسيما مع عودة إيران إلى تخصيب اليورانيوم وانتهاك الاتفاق النووي الموقع عام 2015، وتهديد أوروبا بإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران، ما يعني زيادة وطأة العقوبات الدولية عليها، ومن ثم زيادة الوضع الاقتصادي الداخلي تردياً، بشكل قد يدفع إلى توسيع نطاق الاحتجاجات الشعبية وخروجها عن السيطرة.
الوضع الراهن يتطلب من النظام الإيراني مراجعة جادة لسياساته غير البناءة، سواء في الداخل، عبر تركيز الاهتمام بصورة أكبر على تحقيق مطالب الشعب الإيراني المشروعة في التنمية والرخاء وتوجيه الموارد الإيرانية لخدم هذا الهدف، أو في الخارج عبر انتهاج سياسة تقوم على إعادة بناء الثقة مع الدول الأخرى، ولاسيما دول الجوار الخليجي، واحترام سيادتها وعدم التدخل في شؤونها، فلا أحد يرغب في تصعيد التوتر مع إيران، أو خروج الوضع في إيران والمنطقة عن السيطرة، ولكن المهم أن يكون النظام الإيراني مقتنعا بأن مواصلة النهج الحالي لن يحقق له أية مكاسب استراتيجية، وإنما سيبقيه في دائرة العزلة والعقوبات، وسيزيد من الضغوط الخارجية والداخلية عليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة