«الموصل» أحدث محطاتها.. الإمارات ترسم خريطة جديدة لدبلوماسية التراث

في مدينة الموصل القديمة، حيث تركت الحرب ندوبها على الحجر والبشر، ارتفعت المئذنة الحدباء مجددا، وشرع الجامع النوري الكبير أبوابه أمام المصلين.
بعد 8 سنوات من تفجير الجامع والمئذنة على يد تنظيم "داعش"، استعادت المنارة التي ارتبط اسمها بالمدينة مكانتها في الأفق.
هذه العودة لم تكن قدرا محضا، بل ثمرة مبادرة إنسانية تقودها دولة الإمارات بالشراكة مع اليونسكو وهيئة الآثار العراقية، ضمن مشروع "إحياء روح الموصل".
إعادة بناء جامع النوري ومنارته ليست مجرد إعادة ترميم مبنى أثري، إنها محاولة لإعادة نسج ذاكرة جمعية انقطعت فجأة تحت وطأة العنف، واستعادة هوية مدينة كاملة رُسمت ملامحها عبر قرون.
الإمارات ورسالة حضارية عابرة للحدود
عندما أعلنت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، اكتمال ترميم المنارة في فبراير/شباط، لم يكن شكرها للإمارات مجرد بروتوكول دبلوماسي، فالدعم الإماراتي لم يقتصر على التمويل، بل حمل رسالة أبعد، وهي مواجهة "معاول التطرف" بأدوات البناء.
في كلماتها، بدا واضحاً أن ما يجري في الموصل يتجاوز مشروعاً عمرانياً؛ إنه مشروع لإعادة تعريف العلاقة بين البشر وتراثهم في مواجهة محاولات المحو.
هذا المشروع هو أحدث تجليات ما يمكن وصفه بـ"دبلوماسية التراث" الإماراتية؛ مبادرات تتوزع بين الموصل والقدس وباريس والقاهرة والمنامة، توحّدها رؤية واحدة مفادها أن الحفاظ على المعالم الإنسانية هو حفاظ على الذاكرة المشتركة للإنسانية.
جامع النوري
تاريخ جامع النوري يروي قصة العراق نفسه، بُني في القرن الثاني عشر على يد نور الدين زنكي، وعُرف بمنارته المائلة التي صارت رمزاً لمدينة الموصل.
لكن في يونيو/حزيران 2014، رفع "داعش" رايته السوداء فوقه، ليصبح منبراً لإعلان "الخلافة" المزعومة. وبعد 3 سنوات فقط، ومع اقتراب القوات العراقية من تحرير المدينة، فجّر التنظيم المسجد ومنارته، في محاولة لمحو الرمز حتى قبل أن يخسر الأرض.
اليوم، بفضل مشروع إعادة الإعمار، يستعيد الجامع والمنارة مكانتهما. لكن عودتهما تحمل معنىً مختلفاً: من منصة لخطاب الكراهية إلى مساحة تعكس إرادة الحياة.
ما بعد الأنقاض: تحديات البناء
لم يكن الطريق نحو إعادة الجامع سهلاً، ففرق العمل واجهت متفجرات لم تنفجر تركها التنظيم وراءه، ومخطوطات أثرية اكتُشفت تحت الركام، فضلاً عن التحدي الأكبر وهو كيف تُعاد المئذنة "مائلة كما كانت"؟ كان القرار أن يُستخدم الحجر ذاته، وأن يُحافظ على الميلان ذاته، ليظل الرمز حياً لا نسخة بلا روح.
هذا الإصرار على الأصالة يفسر الفرح الذي عمّ الموصل مع اكتمال ترميم المنارة، إذ لم تكن المدينة تريد نسخة جديدة، بل أرادت عودة ماضيها الذي حاول العنف مصادرته.
كنيستا الطاهرة والساعة.. تآلف الأجراس والأذان
لم تقتصر المبادرة على جامع النوري، فقد التزمت دولة الإمارات أيضاً بإعادة بناء كنيستي الطاهرة والساعة، اللتين دمرهما الإرهاب، لتعود أصوات الأجراس إلى جانب الأذان، في مشهد يُعيد التذكير بما كانت عليه الموصل من تعددية دينية وثقافية.
هنا، يكتسب الدور الإماراتي طابعاً رمزياً مضاعفاً؛ ليس فقط إعادة بناء حجارة، بل إعادة بناء ثقة بين مكونات مجتمع انهكته الانقسامات.
قبة الصخرة
إلى جانب إسهامها في إعادة إعمار جامع النوري ومنارته الحدباء وكنيستي الطاهرة والساعة في الموصل، تبرز جهود الإمارات في حماية مواقع دينية وتاريخية بارزة، من بينها مسجد قبة الصخرة في القدس.
فقد تكفل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بترميم سقف القبة في عام 2004، بعدما أصيب بأضرار نتيجة هزة أرضية ضربت المدينة، فضلاً عن تقادم بعض أجزائه الرخامية.
كنيسة المهد
كما بادر الشيخ زايد عام 2002 إلى تمويل أعمال ترميم كنيسة المهد في بيت لحم، بالتنسيق مع منظمة اليونسكو، باعتبارها أحد أبرز المعالم المسيحية في العالم.
وشملت أعمال الصيانة معالجة أضرار لحقت بالكنيسة نتيجة الاعتداءات العسكرية آنذاك، إضافة إلى ترميم تمثال السيدة مريم الذي يعود لأكثر من ألف عام وأصيب برصاصات استدعت تدخل خبراء آثار متخصصين.
مسجد عمر بن الخطاب
وبالقرب من الكنيسة، شمل الدعم الإماراتي ترميم مسجد عمر بن الخطاب، الذي يعود بناؤه إلى عام 1860 على أرض تبرعت بها الكنيسة الأرثوذكسية.
ويرتبط المسجد بزيارة الخليفة عمر بن الخطاب لبيت لحم عام 637 ميلادية، وهو شاهد على التعايش الإسلامي - المسيحي في المدينة.
مسرح قصر فونتينبلو
وفي فرنسا، لعبت الإمارات دوراً بارزاً في إحياء مسرح قصر فونتينبلو الإمبراطوري المدرج على قائمة التراث العالمي، فقد تكفلت دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي بتمويل أعمال ترميمه وتجديده، ليعاد افتتاحه عام 2019 بعد إغلاق دام أكثر من قرن. وأطلقت الحكومة الفرنسية اسم الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان على المسرح تقديراً لمساهمة الإمارات.
مكتبة ماكميلان في كينيا
على صعيد آخر، تولت إمارة الشارقة ترميم وتجديد مكتبة ماكميلان في العاصمة الكينية نيروبي، وهي من أعرق المكتبات في أفريقيا وتشكل إرثاً ثقافياً بارزاً للقارة.
متحف الفن الإسلامي في القاهرة
وفي مصر، جاء التدخل الإماراتي لإنقاذ متحف الفن الإسلامي بالقاهرة عام 2014، بعد تعرضه لعمل إرهابي ألحق أضراراً كبيرة به.
ويعد المتحف، الذي افتُتح عام 1903، الأكبر من نوعه في العالم ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية تمثل مختلف العصور الإسلامية.
"نُزُل السلام" في البحرين
أما في البحرين، فقد افتتحت الإمارات عام 2019 مشروع "نُزُل السلام" في مدينة المحرّق بالتعاون مع مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث.
ويهدف المشروع إلى إعادة إحياء بيت فتح الله التراثي، المدرج على لائحة التراث الإنساني، ليكون محطة ثقافية وسياحية جديدة.
هذه المبادرات، التي تتوزع بين العالم العربي وأوروبا وأفريقيا، تجسد الدور الذي تلعبه الإمارات في صون الإرث الإنساني، بما يرسخ مبادئها القائمة على التعايش والانفتاح والتقارب بين الثقافات.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuOSA= جزيرة ام اند امز