بعد أن بات العراق من أكثر مناطق الاضطراب والتصدع الدولي والمجتمعي في العالم،
إلا أنه كان من أكثر المناطق العربية أهمية للعلاقات والاستراتيجيات الدولية والإقليمية، من النواحي "الجغرافية -الاقتصادية - الأمنية - السياسية"، ويعتبر بمثابة المفاعل السياسي والمركزي للتطورات والتحولات في العالم العربي، وهو ما جعل قوى إقليمية ودولية عديدة تتصارع من أجل السيطرة عليه، والتحكم بالتطورات الجارية فيه؛ لهذا يظن البعض أن الخلل في العراق يكمن في بعض الأشخاص الذين يتولون مسؤوليته، بينما الواقع يقول إن المشكلة في النظام "الطائفي" وليست في الأشخاص فقط، حتى ولو كانوا على قدر من الكفاءة والإخلاص، فالبعض يتوقع تحسّن الأمور؛ لأن الخلل ليس في تعاقب الأشخاص في تولي زمام الأمور، وإنما في تركيبة النظام نفسه الذي أدى إلى زوال الدولة وسقوطها، وجعلها رهينة بيد المليشيات والتجاذبات الخارجية.
قبل سبعة عشر عاماً، لم يكن العراق فقيراً، بل جرى نهبه، ولم يكن مدمّراً، بل جرى تفجيره، بينما يتعرّض حاليا الكثير من سكانه إلى سياسات إيران التخريبية من الاغتيالات والقتل والقمع والحرمان من أبسط الحقوق وضياع لهيبة الدولة، وجعلها مستودعا لتخزين وتهريب الأسلحة والصواريخ، بعضها يُصنف أمميا ضمن الجرائم الإنسانية؛ نتيجة النشاط المنظم الفاضح للمليشيات والأحزاب، التي تُعد مُعطّلا داخليا مؤثرا لنمو العراق، وسبب الوضع البائس الموبوء الحالي، ولكي تستمر في الوجود والتأثير، عمدت إلى تقسيم الشعب العراقي إلى مكونات متناحرة ومتعاكسة، والدولة إلى مراكز قوى متخالفة، والجيش العراقي إلى كيان غير موحد، وغير منسجم، وغير ملتزم بالدفاع عن حدود الوطن وسيادته، ضمن فصائل مسلحة مليشياوية تؤكد أن ولاءها لرؤساء تلك الفصائل وليس للوطن.
كما أن حالة الاشتباك "الأمريكية - الإيرانية" والمغامرات "السياسية والعسكرية" دائما ما تجعل من العراق ضحية لهذه الحالة الفريدة دوليا، وأرضا خصبة لصراع قطع الأذن والذيل، ترجمتها دعوة مقتدى الصدر حول "إبعاد العراق عن صراعات إيران"، فهي تجعل المعطيات تظلّ واردة لحصول مفاجأة ما، بسبب الموقف الصعب الذي تواجهه إيران مع اقتراب الذكرى الأولى لتصفية الأمريكيين لـ"قاسم سليماني" قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري، ونهاية الفترة الرئاسية والأسابيع الأخيرة للرئيس ترامب، فهي في حاجة ماسة إلى الردّ؛ لحفظ ماء الوجه أمام أتباعها، وتكرار وعيدها بالانتقام، ورسم خطوطها الحمراء، لا سيما بعد اغتيال العالم النووي، لكنها تدرك تماما أن الانتقام الاستعراضي سيرتد عكسيا عليها، وفي الوقت نفسه لا تريد مواجهة مفتوحة مع ترامب غير محمودة العواقب، بينما إدارة ترامب ليست في صدد السكوت عن أي عملية تقوم بها إيران وتؤدي إلى مقتل أمريكيين، فقد قُدّر للعراق أن يكون منصة مواجهة، وملعبا لحرب مقبلة مطروحة للظروف، ولأي مغامرة حمقاء، وستستمر مرحلة حبس الأنفاس، وستتملص طهران من أي احتكاكات قد تستغلها واشنطن، وسيستمر قادة الحرس الثوري في إطلاق التهديدات الفارغة، فيما ستحاول بغداد تجنُّب أن تكون ساحة لتصفية الحسابات الحالية واللاحقة.
اعترف الرئيس العراقي مؤخرا بسوء الأوضاع العراقية، حيث ذكر أن بلاده بحاجة لعقد سياسي جديد، يؤسس لدولة ذات سيادة كاملة؛ نظرا لتصدع منظومة الحكم التي تأسست بعد عام 2003، وأنه من غير الممكن أن يتحمل المواطن ضريبة الصراعات والإخفاقات السياسية والفساد؛ لأن منظومة الحكم في العراق لا يُمكنها أن تخدم المواطن المحروم من أهم حقوقه المشروعة. هذا الاعتراف هو تأكيد على أن العراق وشعبه هما الضحية الحقيقية، وفيه جزء من حل المشكلة، فالاعتراف بالمشكلة يعطي أملا للوصول للحل مهما كانت صعوبته، ويؤكد أن فيروس الفساد العراقي الأسطوري الذي ينتشر بطريقة مرعبة ومخيفة وقدرة هائلة بات أكثر فتكا بالعراق والعراقيين من فيروس وجائحة كورونا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة