"ثمة أشخاص حين يموتون يموتون، وأشخاص حين يموتون لا يموتون"، الذين يقاومون فناء الموت -جسديا- يتكئون على فكرة الخلود.
التي أختلف معها لأنها تتنافى تماما مع بشرية الإنسان، فأهم صفات الإنسانية أنها غير دائمة أي فانية، لكن يمكن الاستعاضة عن خلود – الذكرى- ما بعد الموت بصفة أخرى أراها مناسبة ومنطقية وهي "التأثير".
إذا الشيء الوحيد الذي يبقينا بعد الموت هو التأثير، يختلف باختلاف استمراريته، فلا يمكن لأي أحد أن ينكر التأثير الذي أحدثه لنا وفينا، أصحاب الاختراعات الكبرى مثل مَن اخترع المصباح الكهربائي أو اخترع لنا السيارة أو الطائرة أو العلاج أو الموبايل، حتى لو نسينا أسماءهم، لكن تأثيرهم قائم فينا ومستمر وفاعل.
من هنا يمكن القول إن الشيء الفاعل الوحيد المقاوم "للموت" ـالغياب الجسدي أو الوجودي- هو فعل التأثير، هنا تصبح مقولة محمود درويش "لم يمت أحد نهائيا"، مقولة حقيقية ومجربة، فالموت النسبي يعتمد على ما تركه الذي مات من تأثير فينا.
تبعا لذلك يمكن القول وبثقة إن وحيد حامد واحد من أولئك الذين يمكن لهم أن يقاوموا الرحيل أو الغياب - بمعناه الجسدي- ، بما أحدثوه من تأثير فينا وبقدر بقاء التأثير في مَن سيأتي من أجيال. قد لا يكون وحيد حامد صاحب اختراعات عظيمة، وإنما هو واحد من المعماريين الكبار والبنائين العظام للوجدان العربي.
هؤلاء شريحة تصل ندرتها إلى حد كبير في ذلك الزمن الرديء الذي نحياه الآن، وحيد ينتمي لفصيلة "أم كلثوم وعبدالحليم حافظ ومحمد عبدالوهاب ونجيب محفوظ وطه حسين والعقاد ويحيى حقي"، هو منهم حتى لو اختلف الحقل الإبداعي، كل منهم ترك ما يجعله باقيا فينا بعد وفاته، كل منهم أثّر في حياته وما زال يؤثر بعد موته.
فكما كان نجيب محفوظ، هو شيخ الرواية العربية وأبوها الروحي وصاحب اليد الطولى في تطورها، يمكن القول إن وحيد حامد أيضا صاحب التأثير الكبير في السينما العربية الحديثة أي سينما الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها.
هنا لا أضع عمنا جميعا نجيب محفوظ في مقارنة مع أحد، وإنما محل ذكره باعتباره المعيار القيمي الذي يمكن أن يلجأ إليه كل شخص لقياس مدى الاقتراب أو الابتعاد من تأثيره.
نجيب محفوظ، صاحب التأثير الممتد الذي يتحرك في مجال وعي مَن قرأ له أو في مجال وعي مَن لم يقرأ له، هو حالة من الأثير التأثيري المحرض على الوعي والتفكير والنضج عبر ما ترك لنا من روايات تصل إلى ما يقارب الأربعين رواية وسبع عشرة قصة قصيرة والعديد من السيناريوهات السينمائية.
سنجد الأستاذ وحيد حامد ترك لنا أكثر من أربعين فيلما سينمائيا و15 مسلسلا تلفزيونيا، و12 مسلسلا إذاعيا و4 سباعيات درامية وثلاث مسرحيات وأربع مجموعات قصصية.
هنا يمكن الرصد في نظرية التأثير التي أحدثها الراحل وحيد حامد والتي متوقع لها البقاء في الأزمنة القادمة، فكرة التنوع للوصول إلى وجدان المتلقي "المشاهد - المستمع – القارئ"، فهو قدّم للسينما أكثر من أربعين فيلما تعزف جميعها على العديد من الأوتار التي تجعل المشاهد العربي يجد فيها بعضا من أوجاعه وهمومه وطموحه.
في السينما اشتغل على جملة من المحطات التي يمكن أن تشكل وحدة موضوع، أو وحدة هدف، فمحطته مع المخرج الراحل عاطف الطيب مثلا من المحطات التي تشكّل عمقا فلسفيا عبر فيلم "البريء" وفيلم "الدنيا على جناح يمامة".
ولو وقفنا عند فيلم البريء وحده، يمكن لنا أن نتخذه مثالا حيا على عمق الطرح الفلسفي الثائر في وجه ما يمكن أن نسميه سلطة القهر. لعل القارئ المحترم يتذكر إبداع الراحل أحمد زكي عبر شخصية المجند الريفي الذي سيقدم في نهاية الفيلم الإجابة المنتظرة عن السؤال الذي تشكّل في وجدان المتلقي منذ بداية الفيلم وهو: مَن سيكون البريء؟
البريء عند وحيد حامد يتناسب مع نظرية القابلية للاستغلال، هي نفس النظرية التي أخذت من المفكر الكبير "مالك بن نبي" صاحب نظرية القابلية للاستعمار، وأخذت من المفكر الإيراني الكبير "علي شريعتي" القابلية للاستحمار.
الجهل والسذاجة والفقر والمرض، كلها أمراض تمثل الأرض الخصبة التي يمكن أن تزرع فيها كثيرا من الأمراض التي قد تؤدي إلى جرائم إنسانية، لكن الحقيقة أن البراءة عند وحيد حامد هي ذنب أكثر منها مبررا، فلم تكن البراءة عذرا بل كانت تهمة أدت إلى قتل روح خنقا على يد الجندي الساذج الذي قتل إنسانا لأن هناك مَن أقنعه بأنه من أعداء الوطن.
فكرة البراءة في أفلام وحيد حامد، فكرة دائمة ومستمرة في عدد من الأفلام حتى لو تنوعت الموضوعات، فالبراءة ستجدها في فيلم "الإرهاب والكباب" الذي قدّمه عام 1992 من بطولة عادل إمام ويسرا، عبر المواطن البسيط الذي ذهب إلى مجمع التحرير لإنهاء بعض الأوراق الحكومية ودخل في خلاف بسيط مع الموظف وفجأة يجد بندقية العسكري الحارس في يده وفجأة يصبح إرهابيا من منظور كل مَن تابعه، البراءة هي التي جعلت هذا المواطن حين حوصر المكان بقوات الأمن وقالوا له: ما هي طلباتك طالما أنت تتخذ المواطنين الأبرياء رهائن؟ قال لهم: "نريد كباب".
هي إذا فكرة البراءة التي تتحول مع الوقت إلى تهمة، وإلى جريمة أحيانا، نفس الطرح نجده في فيلم آخر هو "دم الغزال" الذي قُدّم عام 2005، والذي اعتُبر غوصا في أعماق العشوائيات التي فرّخت عديدا من مظاهر التشدد والعنف، عبر الطبال الذي تحوّل إلى زعيم جماعة يقتل الناس ويقتص من الآخرين، وفي النهاية تموت البراءة المتمثلة في الشخصية التي لعبت دورها "منى زكي".
تمتد تيمة البريء في أفلام وحيد حامد حتى تصل إلى فيلم "سوق المتعة" بطولة محمود عبدالعزيز وإلهام شاهين، فيلم يصل لأن يكون فيلما عالميا بامتياز، يحكي قصة الرجل الذي تورّط في قضية مخدرات لأنه ساذج، بدّلت أنثى جميلة حقيبتها معه في المطار، ثم يخرج بعد خمسة وعشرين عاما ليجد أن تلك العصابة قد ادخرت له نصيبه من المال، لكن حين أخذ تلك الملايين حاول أن يستمتع بكل السُبل فلم يجد متعة سوى أنه بنى سجنا كبيرا وجاء بكل زملائه الذين سُجن معهم حتى السجّان الذي كان يعذبهم، وفي النهاية يقدم ثمن براءته التي تحوّلت إلى تهمة بل جريمة.
وحيد حامد نجح في وضع نظرية مهمة يمكن الاستفادة منها في فهم السلوك الإنساني، وهي نظرية أن البراءة ليست ميزة، بل هي عيب يصل إلى حد الجريمة، فالبراءة لا تشفع لك في جميع ما ينتج عنها من جرائم.
الهاجس الإنساني عند وحيد حامد هو هاجس الوعي، لدرجة أنه أوضح في كثير من أفلامه أن الشخصية الواعية حتى لو كانت شريرة وارتكبت جرائم ستكون جرائمها أهون بكثير من الجرائم التي تنتج عن الشخصية البريئة والساذجة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة