خزائن التاريخ مَعينٌ ثَرٌّ لكل من يريد ويسعى لفهم الظواهر وتفسيرها، واستقراء القادم من الأحداث وتوقع مساراتها،سياسية وغير سياسية.
ما تكتنزه بطون المدونات والكتب التاريخية منذ السيرة الأولى للكون وللإنسان تتيح للباحث، كما للمؤرخ، كما للسياسي، فرصة الاستلهام من دلالات الأحداث والوقائع الغابرة بما يسعف ويعين على رسم معالم جديدة لتوكيد نهج ومنهج أي عمل يتصدى له.
التاريخ بمفهومه التراكمي للأحداث والوقائع مستشارٌ وفيٌّ لطالب الحكمة والتبصر، وملهماً غنياً للرواد في أي موقع كانوا، لكن ذلك لا يعني التسليم بكل ما تحمله بطون الكتب التاريخية وكأنها مسلمات أو مقدسات لا يجوز ولا يمكن التشكيك في بعض رواياتها، ولا يعفي من يستلهم من عِبر الماضي من التعاطي معها بتمحيص عقلي ومقارنات مستندة إلى قواعد البحث والتدقيق بالروايات التاريخية، لذلك يقول علماء التاريخ والباحثون المتخصصون فيه إن الشك رائد الحكمة في البحث التاريخي، ولكن أي شك؟ إنه الشك المنهجي الذي يتيح للمتعاطي مع القصص التاريخية المدونة إمكانية قياسها بما يتلاءم مع المنطق، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف وواقع وبيئة الحدث أو الظاهرة التي يجري تمحيصها وتدقيقها، لذلك يمكن استخدام أدوات البحث والتدقيق المعاصرة في محاولة فهم وتفسير حدث غابر، لأن الحقائق التي يجمعها المؤرخ ويرتبها حسب الزمان والمكان والشعوب المتعلقة بها، تكون فقط الهيكل العظمي للتاريخ وتحتاج إلى تحقيق، ولذلك قال الشاعر العربي:
فما كُتبُ التاريخ في كل ما روتْ لقرائها إلا حديثٌ ملفّقُ
نظرنا لأمر الحاضرين فرابَنا فكيف بأمر الغابرين نصدّقُ
التاريخ مفهوم إشكالي؛ فكما يسطره المنتصرون؛ يمكن للمهزومين رواية حكايتهم. تتباين الروايات أحياناً حول حدث واحد. تتناقض الرؤى والتفسيرات في بعض تدوينات الأحداث، ويبقى حامل كل تلك الروايات متمحوراً حول حدث أو قصة. لكتابة التاريخ أسسٌ وضوابط وقواعد حين يؤول أمر التدوين إلى مختصين ودارسين، لسنا هنا بصدد البحث عنها ووضع قواعد ولا حتى بصدد نقد كتابة التاريخ وأساليبه، أو كيفية تمحيص تاريخ حقبة ما، مكانياً أو زمانياً. الفكرة تتلخص في التفاعل المتبادل بين الإنسان وماضيه، ومدى تأثره، بصرف النظر عن موقعه ودوره.
كثيرة هي العبر والدلالات التي تختزنها سِيَر التاريخ على مختلف حقبها وأدوارها وأممها وأمصارها. لا يقتصر دور السرد التاريخي على تثبيت واقعة هنا وحدث هناك. أعمق وأغنى ما يقدمه التاريخ للإنسان هو تلك النماذج المتعددة والمتنوعة للصنف البشري بميولهم وأهوائهم ونزعاتهم وتقاليدهم وقيمهم وطقوسهم الإيمانية والاجتماعية. المؤرخ الإنجليزي جورج تريفليان يلخص قوة التاريخ الإنسانية بقوله "إن التاريخ يعمل أكثر من أي شيء آخر على شفاء الإنسان من التغرض السياسي، وذلك لأنه يعرّفه بوجهات نظر في التاريخ لم يرها من قبل".
فسحة من التنوير يمنحها التاريخ للإنسان، يتأمل سياقات كثيرة لحدث واحد، متعارضة أحيانا، متباينة أحياناً أخرى، وقد تكون متجانسة أيضا، لكن جميع الصيغ تشكل مصدر إلهام، حيث تجعله قادراً على التنازل عن أحادية النظر حيال الأحداث، والأخذ بضرورة تجنب قياس كل شيء بمقياس فردي، والإسهام في جعل الإنسان أقرب إلى الحكمة في تناوله للظواهر بشكل عام :
مَن لم يعِ التاريخَ في صدره لم يدْرِ حلوَ العيش من مُرّهِ
ومَن وعى أخبارَ مَن قد مضى أضاف أعماراً إلى عمرهِ
مصدر الاهتمام بالتاريخ يعود لتلك الميزة في طبيعة الإنسان التي أوجدت سائر العلوم؛ أي رغبة البشر في المعرفة، وهدف هذه المعرفة هو العالم بأسره، خاصة الإنسان. إنها الرغبة الغريزية لدى الإنسان في معرفة ماضيه وماضي العالم، ولهذا اخترع أساليب كثيرة ليعلم شيئاً عن ماضيه.
لم تعد وظيفة التاريخ مقتصرة على تدوين الحوادث بل تطورت منذ محاولته فهم النظام المعقد لحياة الإنسان الاجتماعية من خلال تفاعله مع العلوم الاقتصادية والاجتماعية، وعلوم السياسة والفقه والنفس، وفروع أخرى كالآداب والفنون التي تتعلق بحياة الإنسان الروحية وبنتائج حضارته، وهذا ما جعله علما أكثر فأكثر، وصارت غايته تحديد القوانين التي بموجبها تتطور حياة الإنسان.
في هذا المضمار؛ لا يستقيم النظر دون التعريج على ما يقوله فيلسوف التاريخ ابن خلدون في مقدمته معرّفاً ماهية علم التاريخ "فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال، وتشد إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، وتتساوى فيه العلماء والجهّال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار من الأيام والدول، والسوابق من القرون الأُوَل، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة وعريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة